فصل: فصل: هذا الفصل يشمل السلام والتحلل وما يتعلق به.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: صفة الصلاة:

قال الشافعي: "إذا أحرم إماماً، أو وَحْده، نوى صلاتَه في حال التكبيرة، لا قبله، ولا بعده... إلى آخره".
770- النية ركن الصلاة وقاعدتها، وهي محتومة باتفاق العلماء، وفي تفصيل القول فيها خَبْط كثير الفقهاء. والذي جر في ذلك معظمَ الإشكالِ الذهولُ عن ماهية النيّة، وجنسها في الموجودات.
ونحن نذكر الحق في ذلك، ثم نبني عليه الأغراض الفقهيّة على أبين وجهٍ إن شاء الله تعالى.
771- فالنيّة من قبيل الإرادات والقصود، وتتعلق بما يجري في الحال أو في الاستقبال: فما تعلق بالحال، فهو القصد تحقيقاً، وما يتعلق بالاستقبال فهو الذي يسمى عزماً، ولا يتصوّر تعلّق النيّة بماض قطعاً. ثم إن فرض تعلق النيّة بفعل موصوف بصفة واحدة، سهلت النية، وإن كثرت صفات المنوي، فقد تعسر النية، وسأذكر سبب العسر فيه، وقد يظن الأخرق أن النية لها ابتداء، ووسط، ونهاية، وجريان في الضمير على ترتيب، وهذا زلل، وذهول عن حقيقة النيّة. وإنما الذي يجري على ترتيبٍ ما نصفه، فنقول:
إحضار علومٍ في الذهن متعلقةٍ بمعلوماتٍ عسر؛ حتى ذهب بعضُ الأئمة في الأصول إلى أن العلْمين المختلفين يتضادان ولا يجتمعان، وهذا خطأ صريح، فإذا كان الفعل موصوفاً بصفات، فالعلوم بها تترتب، وتقع في أزمنة في مطرد العادة. ثم إذا حضرت العلومُ، واجتمعت في الذكر يُوجه القصد إليها، في لحظة، بلا ترتب واسترسال. ثم قد تجري العلوم، فيبقى الذهول في أواخر الأمور عن أوائلها، فلا تتوجّه النية إلى الموصوف كما ينبغي. فإن انضم إلى ذلك التلفظُ بشيء آخر سوى المنوي-كالتكبير في حال التحرم- تناهى العسر من اجتماع هذه المختلفات.
فقد نصصنا على ماهية النية، وأوضحنا أنها لا تترتب في نفسها، وذكرنا ما يطرأ فيها من عسر، وسنبين غرضنا الآن إن شاء الله تعالى.
فنقول بعد ذلك: الكلام في
ثلاثة فصول:
كلام في وقت النية، وكلام في كيفية النية، وكلام في محل النية.

.فصل: في وقت النية

772- فأفا وقت النية، وهو أغمض الفصول، فليعتنِ الناظر به، ونحن ننقل مقالات الأصحاب فيه مرسلاً، ثم ننبه على مُدرك الحق إن شاء الله تعالى:
فمن أئمتنا من قال: ينبغي أن تقترن النية بالتكبير وينبسط عليها، فينطبق أولها على أول التكبير، وآخرها على آخره. وهذا ما كان يراه شيخنا. وكان يستدل بظاهر نص الشافعي- قال: "نوى في حال التكبير لا قبلها ولا بعدها".
وذهب بعض أئمتنا إلى أنّه يقدم النية على التكبير. وإذا تمّت، افتتح همزة التكبير متصلة بآخر النيّة. ولو قرن النيّة بالتكبير، لم يجز. وذكر العراقيون والصيدلاني أنه لو قدم كما ذكره المقدِّمون، أو قرن كما ذكره الأوّلون، جاز.
ثم ذكر أصحاب هذه المذاهب وجوهَ مذاهبهم مرسلةً، فنذكرها، ثم ننعطف على إيضاح التحقيق إن شاء الله.
فأما الذين شرطوا الاقتران، اعتلّوا بأن العقد يحصل بالتكبير، فينبغي أن يكون القصد مقروناً به، وإن تقدّم القصد ثم جرى التكبير-عَرِيّاً عن العقد- لم يرتبط القصد بالمقصود، ولم يتحقق تعلّق أحدِهما بالثاني.
وأما من رأى تقديم النية، اعتلّ بأن النيّة لو بسطت على التكبير، خلا أول التكبير من نيّةٍ تامّة، وإذا قدّمت النيّةُ، ثبت حكمها، فاقترن حكم النيّة التامّة بأول جزء من التكبير.
ومن جوّز الأمرين جميعاًً، بنى توجيه مذهبه على المسامحة في الباب، واستروح إلى أن الأوَّلِين كانوا لا يتعرّضوِن لتضييق الأمر في ذلك على الناس.
773- وهذه المذاهب ووجوهها مختبطة لا حقيقة لها. ونحن نقول: قد سبق أن النية لا يتصوّر انبساطها، وإنما الذي يترتب ذكرُ العلوم بصفات المنوي كما سبق، فمن يُقدّم إنما يقدّم إحضار العلوم، فإذا اجتمعت، ولم يقع الذهول عن أوائلها، وقع القصد إلى المعلوم بصفاته مع أول التكبير، فتكون حقيقة النية في لحظة واحدة مقترنة بأول جزءٍ من التكبير، فهذا معنى التقديم، فالمقدّم إذاً العلوم، والنيّة مع الأول.
ومن يظن أن النية منبسطة، فإنما تنبسط أزمنة العلوم، فيبتديها مع أول التكبير، ثم نقدّر تمام حضورها مع آخر التكبير. فعند ذلك يجرد القصد إلى ما حضرت العلوم به، فينطبق هذا القصد على آخر التكبير، وآخر التكبير أول العقد، فمن يحاول الاقتران والبسط، فإنّما يحاول إيقاع القصد مع آخر التكبير.
فإذاً سبيل التوجيه-مع ما ذكرناه- أن الأوّل يقول: لو لم تتقدم العلوم على أول التكبير، لم ينطبق القصد على أول التكبير، وإذا خلا أوّل الصلاة عن القصد، لم يجز. ومن شرط الاقتران يقول: النظر إلى حالة العقد، وإنما يقع العقد مع آخر التكبير، ومن خيَّر بين التقديم والتأخير، آلَ حاصل كلامه إلى التخيير بين إطباق القصد على أول التكبير، وبين إطباق النية على أوّل العقد.
فهذا بيان هذه الطرق.
774- ولم يتفطّن لحقيقة النيّة أحد من الفقهاء غيرُ القفّال؛ فأنه قال: "النيّة تقع في لحظة واحدة لا يتصور بسطها" وشَرْحُ ما ذكره ما أوردناه.
ولو حضرت العلوم قبل التكبير، ثم وقع القصد قبل أول التكبير، وخلا أول التكبير عن النيّة، فلا يصح ذلك عند أئمتنا.
775- وأبو حنيفة يصحح هذا. وحقيقة الخلاف بيننا وبينه يرجع عندي إلى أمر أصولي: وهو أن من يرى تقدّم الاستطاعة على الفعل، فمتعلق القدرة عنده ليس عين الفعل، فعلى هذا متعلق القصد يتقدم على وقوع المقصود، كما أن متعلق القدرة متقدم على وقوع المقدور، ثم لا يجوِّز أبو حنيفة أن ينقطع تعلق القصد بغيره عن أول التكبير.
فهذا هو الوفاء ببيان حقيقة المذاهب في التقديم والاقتران. ثم فرعّ الفقهاء على هذه الطرق تفريعاتٍ مختلطة صادرة عن اختلاط الأصول.
776- فأمّا من قال بتقديم النيّة قال: يجب أن يكون مستديماً للنيّة جملةً، إلى الفراغ من التكبير. وهذا أيضاً قول من لم يحط بحقيقة النيّة.
وأنا أقول: من ضرورة تقديم النيّة أن تنطبق النيّة على أوّل التكبير، والمقدم هو المعلوم، ثم إذا حضرت العلوم، وقع القصد، فليس ما يدام نيّةً وإنّما هو ذكر النيّة، وذكْرُ النيّة علمٌ بأنها وقعت، كما وصفنا وقوعها. فإذاً هل نشترط دوام العلم بجريان النية إلى الفراغ من التكبير؟ فيه تردد للأئمة على هذه الطريقة: فمنهم من يشترط الدوام، ومنهم من لم يشترط، ولم يوجب أحدٌ بسطَ حقيقة النيّة.
وممّا يتم به بيان هذه الطريقة أن من شَرَط التقديم فإنما عَنَى تقديمَ العلوم-كما سبق شرحه- وبنى الأمرَ على مجرى العُرف فيه.
فلو قال قائل: لو هجمت العلوم والقصدُ مع أول التكبير، فلا شك أنه يجوز ذلك، لكن هذا لا يقع في مطرد العرف، فهذا تفريع هذه الطريقة.
777- فأمّا من قال: ينبغي أن تُبسط النيّة على التكبير، فقالوا: لو افتتح النية مع أول التكبير، وفرغ منها مع تمام. التكبير، فلا شك أنه يجوز. ولو تمّت التكبيرة قبل تمام النيّة، فلا تنعقد الصلاة، وهذا صحيح. ولكن العبارة خطأ؛ فإن النيّة لا تنبسط، وتحصيل هذه الصورة يؤول إلى أن العلوم إذا انبسطت، ولم يجر القصد حتى مضى التكبير، فلا تنعقد الصلاة؛ فإنَّ وقت العقد مقدم على وقت القصد.
والذي انسحب على آخرِ التكبير لم تكن نيّة، وإنما كان علوماً بصفات المنوي، فإذا نجز التكبير قبل النية، فقدَ تقدم وقتُ العقد على النية.
ولو تمَّت النيّة قبل نجاز التكبير، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك. فنذكر ما ذكروه، ثم نوضح حقيقته: فمنهم من قال: لا تصح الصلاة، ويجب استفتاح التكبير، ومحاولة تطبيق النيّة عليه، بحيث ينطبق الأول على الأول، والآخر على الآخر. وهذا مزيف غير سديد.
وقال قائلون: يكفي استدامة ذكر النية إلى انقضاء التكبير، ولا يجب إنشاء نيّة أخرى.
وأنا أقول: أما من شرط بسط النية، فليس على حقيقة من معرفة النيّة كما تقدَّم ذكره. ولكن وجه ذكر الخلاف أن يقال: من أصحابنا من يشترط بسط مقدمات النيّة على التكبير، ليوافقَ القصدُ حالةَ العقد. وهذا وإن كان معناه ما ذكرناه، فهو رديء في التوجيه. ومن راعى من أئمتنا استدامةَ ذكر النيّة، فهذا تتوقف الإحاطة به على دَركِ الفصل بين إنشاء القصد وبين ذكره. أما إنشاؤه فمفهوم، وأما ذكره، فهو استدامة العلم بجريان القصد حتى ينقضي وقت العقد.
778- والذي يختلج في الصدر أنه لا ينقدح على القاعدة إلا ثلاثة أوجهٍ، أحدها: محاولة تطبيق القصد على أول التكبير، والآخر- تطبيق القصد على آخر التكبير، وهو. وقت العقد، والثالث: التخيير بينهما، فأما البسط، فليس له معنى، ولكن لما لم تكن النية إلا في خَطْرة، والتكبير يُسمى تكبيرة العقد، وكانت حقيقة النيّة لا تنبسط، ذهب ذاهبون إلى بسط العلم، إلى إنشاء القصد، وذهب آخرون إلى بسط الذكر بعد اتفاق نجاز النية في وسط التكبير. وعندي أن من يشترط مراعاة حالة العقد، فلا يبعد أن يجوّز تخلية أول التكبير عن افتتاح العلوم بالمنوي، إن كان يتأتى تطبيق القصد على وقت العقد.
779- فهذا منتهى النقل والتحقيق، ووراء ذلك كله عندي كلام: وهو أن الشرع ما أراه مؤاخذاً بهذا التدقيق. والغرضُ المكتفى به: أن تقع النية، بحيث يعد مقترناً بعقد الصلاة. ثم تميز الذكر عن الإنشاء، والعلم بالمنوي عنهما، عسر جدّاً، لاسيما على عامة الخلق. وكان السلف الصالحون لا يرون المؤاخذة بهذه التفاصيل. والقدر المعتبر ديناً: انتفاءُ الغفلة بذكر النيّة حالة التكبير، مع بذل المجهود في رعاية الوقت، فأما التزام حقيقة مصادفة الوقت الذي يذكره الفقيه، فممّا لا تحويه القدرة البشرية.
فهذا منتهى الغرض في حقيقة النيّة ووقتها.

.فصل: في كيفية النية

780- فأما القول في كيفية النيّة، فنذكر كيفيتها في الفرائض المؤدَّاة في أوقاتها، ثم نذكر بعدها أصنافَ الصلوات.
فأول ما يُعتنَى به: التعيينُ، ولابد منه في الصلاة، فليميّز الناوي الظهر عن العصر وغيرِه من الصلوات. وقد ذكرتُ معتمد التعيين في (الأساليب) في كتاب الصيام.
وأمّا التعرض لفرضية الظهر، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من لم يشترط، واكتفى بالتعيين؛ فإن النيّة إذا تعلقت بالظهر، فالظهر لا يكون إلا فرضاً. ومنهم من شرط التعرض للفرضيّة؛ فإن المرء قد ينوي الظهر، فيقع نفلاً؛ بأن كان أقامه في انفراده، ثم يدرك جماعةً، فيقيمها مرة أخرى.
وقد ذكر العراقيون في ذلك تقسيماً، فقالوا: من العبادات ما لا يشترط فيه التعرض للفرضيّة وجهاً واحداً، كالزكاة، فإذا نواها من لزمته، ولم يتعرض للفرضيّة في النيّة أجزأته؛ فإن اسم الزكاة لا يطلق إلا على المفروض، وما يتطوع المرء به يسمى صدقة، فإن أجرى ذكرَ الصدقة، فلابد من تقييدها بالفرضية. وكذلك الكفارة إن جرت في الذكر، كفت عن الفرضيّة. وإن نوى الإعتاق، فلابد من تقييده بالفرضية، التي تحل محلّ الكفارة.
والحجّ والعمرة والطهارة فلا حاجة إلى تقييدها بالفرضية أصلاً. والصلاة والصوم، إذا عُيِّنا-فجرى ذكر الظهر، أو صوم رمضان- ففي اشتراط ذكر الفرض الخلافُ الذي اذكرناه.
وإذا نوى الناوي الصلاةَ وعيّنها، فهل يُشترط إضافتها إلى المعبود بها، مثل أن يقول: فريضة الله أو لله؟ ذكر صاحب التلخيص أن ذلك لابد منه، وبه تتميز العبادة عن العادة. ومن أصحابنا من ساعده على اشتراط ذلك، ومنهم من رأى ذلك مستحباً؛ من جهة أن العبادات لا تكون إلا لله، فذِكْرُها يغني عن إضافتها.
781- ومما يتعلق بكيفية النيّة: تمييز الأداء عن القضاء، وهذا أصل متفق عليه؛ والسبب فيه أن التعيين إنما يجب للتمييز، وللعبادات رُتب ودرجاتٌ عند الله، فليجرِّد العابد قصدَه في كل عبادة معينة؛ ليتحقق تقرّبه بالعبادة المخصوصة. وإذا كان التعيين لهذا، فرُتْبة إقامةِ الفرض في وقته تخالف رتبةَ تدارك الفائت، فلابد من التعرض للتمييز. ثم قال قائلون من أئمتنا: ينبغي أن يجري ذكر فريضة الوقت، وبهذا يقع التمييز.
وكان شيخي يحكي عن القفال أنه يكفي أن يذكر الأداء. ومن اعتقد مثل هذا في الاختلاف، فليس على بصيرة في الإحاطة بالغرض، فإن الذي يُجريه الناوي معاني الألفاظ، والمقصودُ العلمُ بالصفات، فإذا حصلت العلوم بحقائق صفات المنوي، فهو الغرض، ثم يقع تجريد القصد إلى ما أحاط العلم به. وإذا لاح أن الغرض هذا، فالتنافس في الصلوات وتخيّل الخلاف فيها لا معنى له.
ومما كان يذكره شيخي أن أصل النية أن يربط الناوي قصده بفعله، ويُخْطِر بباله أني أؤدي الصلاة، أو أقيمها؛ فإنه لو ذكر الصلاة وصفاتها، ولم يعلق قصده بفعله لها، لم يكن ناوياً.
وهذا في حكم اللغو عندي؛ فإنه إذا ثبت أن النية قصده، ومن ضرورة القصد أن يتعلق بالفعل، فإن وُجد القصدُ فمتعلّقه فعل الصلاة لا محالة، ولا ينقسم الأمر فيه-تصوراً- حتى يحتاج فيه إلى تفصيل. وإن لم يتعلق القصد بالفعل، فالقصد إذن غير واقع، وإذا لم يقع القصد، فلا نيّة.
فهذا بيان كيفية النيَّة.
782- وذكر بعض المصنفين وجهاً بعيداً: أنه يجب أن تُعلَّق النية باستقبال القبلة، وهذا وجه مزيف مردود؛ فإن الاستقبال إن كان شرطاً، فالتعرض له في نيّة الصلاة لا معنى له، وإن كان ركناً من أركان الصلاة، فليس على الناوي أن يتعرض لتفاصيل الأركان أيضاً.
هذا ذكر كيفية النيّة في الصلاة المفروضة.
783- فأما السنن الراتبة، فلابد من تعيينها في النيّة، ولابد من ذكر إقامتها في الوقت. والقول في إضافتها إلى الله تعالى، على ما تقدّم ذكره.

.فصل: في محل النيّة

784- فأما الكلام في محل النيّة، فمحل النيّة القلب، ولا أثر لذكر اللّسانِ فيه.
وما قدمناه من ذكر حقيقة النيّة في صدر هذه الفصول يتبيّن به كل مشكل في التفصيل، فإذا وضح أن النية قصد، فمحل القصد القلبُ.
وذكر العراقيون أن من أصحابنا من أوجب التلفظ بما يؤدّي معنى النيّة قبل التكبير، وأخذ هذا من لفظ الشافعي في كتاب الحج، وذلك أنه قال "ينعقد الإحرام من غير لفظ بالنيّة، وليس كالصلاة التي يفتقر عقدها إلى اللفظ". ثم قالوا: هذا الذي ذكره هؤلاء خطأ، والشافعي لم يرد باللفظ التلفظ بالنيّة، وإنما أراد باللفظ التكبير الواجب في ابتداء الصلاة، وهذا لا يُعدُّ من المذهب.
وقد نجزت قواعد المذهب في النيّة. ونحن نذكر بعد هذا فصولاً وفروعاً، تشتمل أطراف الكلام في النية، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
785- "المتحرّم بالصلاة إذا نوى الخروج من الصلاة، بطلت صلاته".
قال أبو بكرٍ وغيره من الأئمة: لو تردد المصلّي في الخروج، والاستمرار على الصلاة، بطلت صلاته بالتردد، كما تبطل بجزم قصد الخروج. ولم نر في هذا خلافاً. وطريق تعليله أن الصلاة في حالة العقد تستدعي قصداً مجرداً لا تردّد فيه، ثم اكتفى الشرع بالاستمرار على حكم النيّة، مع عزوبها عن الذكر، ولم يكلف إدامة ذكر النيّة؛ فإن الوفاء بذلك عسرٌ، ثم شَرَطَ ألاّ يأتي بما يناقض جزمَ النيّة، وإن لم يشترط إدامة ذكر ما جزمه. والتردّد يناقض الجزم. وهذا بمثابة الإيمان، فإنا نكلف المرء أن يطلب عقداً مستمرّاً على السداد، ثم لا نكلّفه استدامتَه، بل يطَّردُ عليه حكم الإيمان، غير أنّا نشترط ألا يتشكّك عقدُه.
ثم من الأسرار التي يتعين الوقوف عليها أن الموَسوس قد يجري في نفسه التردّد، وليس هو التردد الذي حكمنا بكونه قاطعاً مبطلاً، ولكن الإنسان قد يصور في نفسه تقدير التردد لو كان كيف كان يكون، وذلك من الفكر والهواجس، ولو أبطل الصلاة، لما سلِمت صلاةُ مفكر موسوس. والتردد الذي عنيناه هو أن ينشىء الإنسان التردّدَ في الخروج على تحقيقٍ، من غير تقدير، وتكلف تصوير، وقد يطرأ على نفس المبتلَى بالوسواس تقدير الشرك بالله، مع ركونه إلى استقرار المعتقد، ولا مبالاة به. والعاقل يفصل بين هذه الحالة، وبين أن يعدَم اليقين، ويصادف الشك.
786- ومما يتعلق بحكم الصلاة في ذلك أن المصلي لو نوى في الركعة الأولى جَزْمَ الخروج في الركعة الثانية، فهو يخرج عن الصلاة في الحال؛ فإنه قطع موجب النية؛ إذ موجبها الاستمرار إلى انتهاء الصلاة، وقد نجز في الحال قطعُ مقتضاها في ذلك.
ولو علق نيّة الخروج على أمر يجوز أن يُفرض طريانه، ويجوز ألا يفرض-مثل أن ينوي الخروج لو دخل فلان- فهل يقتضي بطلانَ الصلاة أم لا؟ وجهان مشهوران، أقْيَسُهما: بطلانُ الصلاة؛ فإن الذي جاء به تردّد فيها يخالف موجب النيّة، ويناقض مقتضى استمرارها.
والوجه الثاني: أن الصلاة لا تبطل؛ فإنه لا يمتنع ألا يدخلَ مَن ذكره، وتتم الصلاة على مقتضى ما أحدثه من التردد، وهذا غير سديد.
فإن حكمنا ببطلان الصلاة في الحال، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الصلاة لا تبطل في الحال، فلو وجدت الصفة التي علق الخروج عليها، وكان ذاهلاً عما قدّمه من تعليق النيّة، فهذا فيه احتمال. وحفظي عن الإمام أن الصلاة لا تبطل، وإن حدثت تلك الصفة، وذلك التعليق الذي كان منه، مُحبَط لا وقع له، ووجودُه وعدمه بمثابةٍ، وفي كلام الشيخ أبي علي ما يدل على أنّا إذا فرّعنا على وجه الصحة، ولم نبطل الصلاة بما علّق، فإذا وُجدت الصفة نقضي بالبطلان، فإن مقتضى تغييره، وتعليقه هذا.
والذي أراه في ذلك أنه إن صح الحكم بالبطلان عند وجود الصفة، فيظهر على هذا أن يقال: نتبين عند وجود الصفة أن الصلاة بطلت من وقت تغيير النيّة؛ فإنّا بطريان الصفة نتبين أن ما جرى من التغيير خالف مقتضى النيّة في حكم ما وقع.
وفي كلام الشيخ أبي علي في شرح التلخيص ما يدلّ على أن من علق الخروج بانتصاف الصلاة، أو مضيّ ركعةٍ منها، أن الصلاة لا تبطل في الحال. ولو رفض المصلي ذلك التردد قبل الانتهاء إلى الغاية التي ضربها، فتصحّ صلاته. وهذا بعيد جداً.
فهذا حكم الصلاة في التردد ونيّة الخروج.
787- فأمّا الحج، فلا تُؤثر فيه نيّة الخروج، ولا تنقطع بالإفساد.
وأما الصوم، فقد قال الأئمة: تعليق نيّة الخروج لا تبطله وجهاً واحداً. وجَزْمُ نية الخروج هل تبطله؟ فعلى وجهين. والفرق بين الصلاة والصوم أن الصلاة مشتملة على أفعالٍ مقصودة، وإنما تقع عباداتٍ بالنيات، فكانت النياتُ مرعية معيّنةً، فإذا ضعفت بالتردد، يجوز أن تبطل، والصوم إمساك وانكفاف، والنية لا تليق بالتروك، كما تليق بالأفعال، فلا يضر ضعفُ النيّة. ولا يحتاط الشرع في نيته احتياطَه في الأفعال المقصودة. وأيضاً، فإن الصلاة مخصوصة من بين العبادات بوجوه من الربط، ولا يتخللها ما ليس منها إلا على قدر الحاجة.
788- ومما يتعلق بهذا الفصل أن المصلي بعد التحرّم إذا شك، فلم يدرِ أنوى أم لا، أو تردّد في صحة النيّة؟ فالذي ذكره الأصحاب فيه أنه إن لم يطل التردد، ولم يمض في وقته ركن، وزال الرَّيْب على قربٍ، فالصلاةُ صحيحة.
ولو تردد المسافر في نيّة القصر في أثناء الصلاة لحظة، ثم تذكر أنه كان نواه، يلزمه الإتمام. والفرق أن تلك اللحظة-وإن قصرت- فهي محسوبة من الصلاة، مع تخلّف نيّة القصر. وإذا مضى شيء من الصلاة مع تخلف القصر، غُلّب الإتمامُ؛ فإنه الأصل، وإذا كان التردد في أصل النيّة أو في صحّتها، فلا تحسب تلك اللحظة على التردد بل نحفظها، ونقدّر كأن لم تكن، ونعفو عنها، كما نعفو عن الفعل اليسير إذا طرأ في الصلاة. وإن دام الشك حتى مضى ركنٌ على الشك، بطلت الصلاة وإن تذكّر المصلّي النيّة أو صحتها؛ لأن الركن الذي قارنه التردّد لا يعتدّ به، فكأنّه زاد في صلاته ركناً في غير أوانِه، ولو فعل هذا حُكِم ببطلان الصلاة، كما سنذكره.
وإن طال زمان التردد، ولكن لم ينقضِ فيه ركن، ففيه وجهان. وهو كما لو طرأ الشك في التشهد الأول وامتدّ.
وهذا الخلاف يقرب ممّا إذا كثر الكلام على حكم النّسيان من المصلي، فهل يتضمن ذلك بطلان الصلاة؟ فيه كلام سيأتي في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
789- فهذا ما ذكره الأئمة، وهذا مما يحتاج إلى فضل بيان، فنقول: إن جرى ذلك في الركوع، وزال في ذلك الركوع نفسه، واستمر صاحب الواقعة بعد التذكر ساعة راكعاً، ثم رفع رأسه، فالذي قطع به الأئمّة صحّةُ الصلاة، وإن مضى في حال التردد ما لو قدّر الاقتصار عليه، لكان ركناً، ولكنه لما بقي راكعاً لم يضرّ ما تقدم على هذا.
فإن قيل: هلا قدّرتم صورةَ الركوع في حال التردد، مع الطمأنينة في حكم ركوع زائد مبطل للصلاة؟ قلنا: الركوع الممتد واحدٌ في الصورة، فلا يجعل بعضه كركوع منفردٍ زائدٍ غير محسوب.
ولو طرأ ما ذكرناه من التردد، والرجل في القيام، وكان يقرأ الفاتحة مثلاً، فقرأ مقداراً منها، ثم تذكر، فإن أعاد القراءة بعد التذكر، لم يضرّ ما مضى، وإن لم يُعد، فلا تصحّ الصلاةُ، وإن لم يمض في حال التردد ركن تام؛ فإن المعتبر أن يمضي ما لابد منه، ثم لا تتفق إعادتُه.
والجملة المغنيةُ عن التفصيل أنّا نجعل ما مضى في حال التردد غيرَ محسوب، ولا معتدّاً به في الصلاة، ولو ترك قراءة حرفٍ واحدٍ من الفاتحة، لبطلت صلاته.
ولو تردّد من أول الركوع، ودام التردّد حتى رفع رأسه، ثم تذكّر وأراد أن يعود، ويركع مرةً أخرى في حال الذكر، فالصلاة تبطل في هذه الصورة على ما ذكره الأصحاب؛ فإنه قد تميز الركوع عن الركوع، فيكون صاحب الواقعة بمثابة من يزيد في صلاته ركناً.
فإن قيل: لو زاد في صلاته ركناً ناسياً، ثم تبيّن، لم يُقْضَ ببطلان الصلاة؛ فهلا عَذَرْتُم من ركع متردّداً، ثم استدرك بعد التذكر وركع؟ قلنا: من ركع متردداً، فهو عامد في الركوع في حالة لا يحتسب ركوعه، فلا نجعله كالناسي. وهذا مفروض فيه إذا كان من نتكلّم فيه عالماً بحقيقة هذه المسألة. وإذا كان كذلك فالواجب ألا يفارق الركوع ويمُدُّه حتى يزول ما هو فيه من لبسٍ، فإذا لم يفعل ذلك، وارتفع، ثم عاد بعد التذكر، فقد زاد ركناً كان مستغنياً عنه.
وإن جرى ما فرضناه من جاهل، فقد نعذره لجهله، كما سنذكر أحكام الجاهلين في أمثال هذا إن شاء الله تعالى.
فهذا بيان ما أردنا بيانه.
فصل:
790- قال صاحب التلخيص: إذا كبّر وتحرّم بالصلاة، ثم تردّد في أن النيّة هل كانت على شرطها أم لا، فكبّر ثانيةً، آتياً بالنيّة على صفتها المطلوبة. قال: إن كانت الصلاة في علم الله منعقدةً بالتكبيرة الأولى، فقد انقطعت بهذه التكبيرة؛ فإنه قصد بها عقداً، ومن ضرورة استفتاح عقد حلُّ ما كان تقدم؛ فإن المنعقد لا ينعقد عقده إلا بعد حله، ثم يُبتَدأ بعد الحلِّ العقد. ثم لا يحكم-والحالة هذه- بانعقاد الصلاة بالتكبيرة الثانية-وإن كانت على الشرط المطلوب- فإن هذه التكبيرة قد تضمنت حلاً؛ فيستحيل أن تتضمّن عقداً؛ فإن الشيء الواحد لا يصلح-فيما نحن فيه نتكلم- لحكمين نقيضين: الحل والعقد جميعاًً، فهذا ما ذكره. وطائفةُ كافّة الأصحاب عليه من غير مخالفٍ. فالوجه إذن أن يرفع التكبيرَ الأول بسلام أو كلام أو غيره، ثم يبتدىء التكبير الثاني عاقداً، فيحصل الحلّ بما يتقدّم عليه، ويتجرّد هذا التكبير للعقد.
791- ولو كبر التكبير الثاني على أنه قطع ما كان فيه-إن كان قد انعقد- فقدّر التكبيرَ الثاني قاطعاً محللاً، واستفتح تكبيراً ثالثاً عاقداً، فقد قال الأئمة: تنعقد الصلاة؛ فإن التكبيرة الثانية جرت قاطعةً غير عاقدةٍ، فتتجرد التكبيرة الثالثة للعقد.
وهذا فيه إشكال عندي، من جهة أنا نجوّز أن التكبيرة الأولى، لم تكن عاقدة في علم الله تعالى، والتكبيرة الثانية صحت من حيث إنها لم تكن متضمنةً حلاً، فإذَا كبّر التكبيرة الثالثة، فهي تتضمن حلاً لما انعقد، كما صوّرناه، وإذا تضمنت حلاً، لم تقتضِ عقداً؛ فإن التكبيرةَ الواحدةَ لا تصلح للنقيضين جميعاًً. هذا وجه الإشكال.
ولكن الجواب عنه: أن التكبيرة الأولى-وإن لم تكن عاقدة في علم الله- فقد قصد صاحب الواقعة بالتكبيرة الثانية حلاّ لما تقدّم، وهذا يُفسد التكبيرة؛ فإنها وإن كانت غير حالة عند الله، فقصد الحل يُفسدها، ويخرجها عن كونها صالحةً للعقد. فإذا فسدت لذلك، فالتكبيرة الثالثة تقع مجرّدةً للعقد، فتصح.
ولو ظن أن التكبيرة الثانية تعقد لو صحت، ولم نحكم بفسادها، فأجرى التكبيرة الثالثة، وهو يُجوّز أن الثانية عَقَدت، فيظهر في هذه الصورة أن يقال: تفسد التكبيرة الثالثة؛ من جهة أنه قصد بها حلاً لما اعتقد انعقادَه. فإذاً إنما تنعقد الصلاة بالتكبيرة الثالثة في حق من يعلم أن الثانية لا يجوز أن تكون عاقدةً حتى لا يفرض حل ما عقدَه بالثالثة. فليتأمل الناظر ذلك؛ فإنه بين.
792- قال الشيخ أبو علي: لو كبّر وشكّ كما ذكرناه، ثم قصد التحلل-إن كان عَقْدٌ- عند التكبيرة الثانية، فلو كانت التكبيرة الأولى عاقدة، ما حكمه؟ قال: هذا يُبنى على أن من قصدَ نية الخروج مُعلِّقاً على أمرٍ في المستقبل، فهل يصير في الحال خارجاً أم لا؟ فيه من التردّد ما ذكرناه قبلُ: إن قلنا: يصير خارجاً، فقد خرج بمجرد ما جرى به من الذكر، ولم يتوقف خروجه على جريان التكبير الثاني. فإذا أقدمَ على التكبير الثاني، فيكون متجرداً للعقد، فيصح.
هذا تفريع على وجهٍ. وفيه نظر؛ فإنه لو اعتقد أن التحلل يحصل بالتكبير الثاني، فقد جاء به على قصد التحلل؛ فينبغي أن يفسد بقصده، وإن كان التفريع على أن التحلل وقع قبله، إلا أن يتفطّن صاحب الواقعة لينجِّز الانحلال قبل الإقدام على التكبير الثاني، فيُقدم عليها عاقداً، فيكون كما قال، فأمّا إذا أقدمَ على التكبير الثاني وهو يظن أن الحلَّ يحصل به، فينبغي أن يفسد لقصده.
ثم فرع على الوجه الثاني-وهو أن من علق الحلّ بأمرٍ في المستقبل، لا تنحل صلاته في الحال- فقال على هذا: يحصل الحلّ عند التكبيرة الثانية، ولا يحصل العقد بها.
وهذا التردّد منه دليل على أن من علق التردّد على أمرٍ يقع لا محالة في الصلاة إن دامت، ففي التحلل في الحال قبل وقوع ما جعله متعلقاً للحلّ خلافٌ، كما حكينا ذلك عنه. وهذا ضعيفٌ غير سديدٍ، والوجه: القطع بانتجاز الانحلال في الحال في مثل هذه الصورة؛ فإنا ذكرنا قطعَ الأصحاب بأن من تردّد في أن يخرج أو لا يخرج، فنفس تردده يتضمّن الحل في الحال. وإذا علق الحل على أمرٍ سيقع في الصلاة لا محالة، فهذا في اقتضاء الحل في الحال ينبغي أن يكون أظهر أثراً من التردّد في نية الخروج.
فصل:
793- المسبوق إذا صادف الإمام راكعاً في الصلاة المفروضة فكبّر، وابتدر الركوع ليدرك الركعةَ، فأوقع بعضاً من تكبيرة العقد بعد مجاوزته القيام، فلا شك أن صلاته لا تنعقد فرضاً؛ فإن الصلاة المفروضة إنما تنعقد ممن يوقع تكبيرة العقد في حالة القيام، ثم إذا لم تنعقد الصلاة، فهل تنعقد نفلاً؟ فإن النافلة تصحّ قاعداً مع القدرة على القيام.
اضطربت نصوص الشافعي في هذه المسألة وأمثالها مما سنذكر صورها، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن الصلاة تنعقد نفلاً، وأنه إن اختل شرط الفرضية، لم يختل شرط النافلة. وهو قد نوى صلاة، ووصفها بالفريضة، وما جرى يناقض الصفة، فلنترك الصفة، ولتبق الصلاةُ مطلقةً، والصلاة المطلقة مصروفة إلى النافلة.
والقول الثاني- أن الصلاة تبطل، ولا تنعقد نفلاً؛ فإنه أوقعَها فرضاً، ففسدت في جهة إيقاعه، وكأن هذا القائل يزعم أن الفريضة جنسٌ من الصلاة تتميز عن النفل، وهي منفردة في حكمها وليست صلاة وفريضة، فإذا بطلت من جهة الفرض، لم يبق وجه في الصحة. وهذا يرد عليه أن الشافعي يجوّز أن يقلب المفترضُ الصلاة المفروضة. نفلاً بأسباب، ولا معنى للقلب إلاّ من جهة تقدير رفع الفرضيّةِ، وتَبْقية الصلاة مطلقة، وهذا يوجب بقاءها نفلاً، وهو مصرّح بأن الصلاة المفروضةَ فيها حكم الصلاة المطلقة، فكذلك تبقى نفلاً إذا بطلت الفرضيّة عنها.
ويمكن أن يقال: من قلب المفروضَة نفلاً، صح؛ لقصده في ذلك، فأما من قصد الفرض على وجهٍ لا يصح إيقاع الفرض عليه، ولم يجرِ في قصده أمرُ النفل، فلا يحصل له النفل. والأمر محتمل.
794- ثم الصورة التي ذكرناها في إيقاع تكبير العقد في الركوع لها نظائر، منها: أن يتحرّم الرجل بصلاة الظهر قبل الزوال فــلا تنعقد فرضاً، ولكن هل تنعقد نفلاً؟ فعلى قولين.
وكذلك لو عقد الصلاة قاعداً مع القدرة على القيام، ففي انعقادها نفلاً ما ذكرناه.
وكذلك لو تحرّم بصلاة مفروضة، وصحّت له، ثم أراد أن يقلبَ الظهر عصراً، أو العصرَ ظهراً، فلا ينقلب فرض إلى فرض، وتبطل الفرضيّة التي كانت صحت، ولا يحصل ما نوى القلب إليه. ولكن هل تبقى الصلاة نافلة؟ فعلى القولين اللذين ذكرناهما.
ولو كان العاجز عن القيام يصلي قاعداً، فوجد في أثناء الصلاة خِفةً، وأمكنه القيامُ من غير عسر؛ فاستدام القعود؛ فتبطل فرضيةُ الصلاة. وهل تبقى الصلاة نافلةً فعلى القولين.
795-والذي ذكرناه، والذي لم نذكره يجمعه أمر، وهو أن من أتى بما ينافي الفرضيّة ولا ينافي النافلةَ، فإذا لم يحصل الفرض، فهل تبقى الصلاة نافلةً؟ فعلى قولين ولا خلاف أن من قلب الفرض نفلاً، فلا يبعد أن ينقلب نفلاً عند مَسِيسِ حاجةٍ إليها. وسنعود إلى هذا في بعض مجاري الكلام، وهو أن الفريضة إذا قلبت نفلاً كيف يكون أمرها إذا لم تكن حاجة؟ وبماذا تُضبط الحاجة؟
وهذا نذكره في المنفرد بالفريضة إذا وجد جماعةً: كيف يفعل؟
فرع:
796- إذا أراد المصلي أن يقتدي في صلاته بإمام، فلينو القدوةَ في الوقت الذي ينوي فيه الصلاة-على ما تقدم وقت النية في اقترانها بالتكبير، أو تقدمها- فلو نوى الاقتداء بعد الفراغ من التكبير، فهو كما لو انفرد بالصلاة، ثم نوى الاقتداء في أثناء الصلاة. وسيأتي تفصيل القول في ذلك مشروحاً إن شاء الله.
فصل:
قال: "ولا يُجزىء إلا قوله: الله أكبر... إلى آخره".
797- لفظُ التكبير على صفته المعلومة يختص بالعقد؛ فلا تنعقد الصلاة إلاّ بقوله: الله أكبر، أو الله الأكبر. فلو ذكر اسماً آخر من أسماء الله، أو وصَفه بصفة أخرى سوى الكبرياء، فقال: الله أعظم أو أجل، لم تنعقد الصلاة عندنا.
وأصل الشافعي تغليب التعبد، والتزام الاتباع، والامتناع من قياس غير المنصوص على المنصوص عليه.
ثم الأصل الله أكبر، فإن قال: الله الأكبر، أجزأه عندنا؛ فإن في قوله: الله الأكبر الله اكبر، ولكنّه زاد لاماً، ولم يغير المعنى؛ فيقدر كأنه لم يأت باللاّم، والإتيان بها بمثابة مد-لا يغيّر المقصود- أو تثاؤبٍ أو نحوهما مما لا يغير المعنى.
ولو قال: الله الجليل أكبر، ففي صحة الصلاة وجهان:
أحدهما: الصحة؛ لأنه أتى بالتكبير، والزيادة غير مغيّرةٍ للتكبير، فصار كما لو قال: الله أكبر.
ومنهم من قال: لا تنعقد الصلاة، فإنه خالف مورد الشرع، والذي أتى به زائد، كلمةٌ مفيدة، يزيدها، فيخرج بزيادتها عن حقيقة الاتباع، وليس كاللام يزيدها من الأكبر؛ فإنها لا تستقل بإفادة معنىً مغيّر.
ولو كان قال: "الأكبر الله"، ففي المسألة وجهان، أصحّهما المنع؛ فإنه وإن أتى بالتكبير، فهو في التقديم والتأخير خالف الاتباع مخالفةً واضحةً. ومنهم من قال بالصحة من حيث أتى بالتكبير.
وحقيقة الكلام في أمثال ذلك أنا إذا رأينا التعبد متبعاً في شيءٍ، فإن أتى بغير المنصوص، لم يجز، وإن أتى به مع أدنى تغييرٍ خفي، فقد يحتمل، وقد يفرض اختلاف في بعض التغايير.
798- إذا تمهّد أن أدنى التغيير لا يضرّ، فنفرض صورةً تتعارض الظنون في قرب التغيير، أو بعده، ومجاوزة الحدّ، فلو قال: أكبر الله، فهو كقوله الأكبر الله، هكذا ذكره العراقيّون، وهو الوجه. وكان شيخي يمتنع من طرد الخلاف في قوله: أكبر الله، ويرى أن ذلك غير منتظمٍ، بخلاف قوله: الأكبر الله. وهذا زلل، وهو غير لائقٍ به، مع تميّزه بالتبحر في علم اللسان، فقول القائل: "الله أكبر" مبتدأ وخبر، فلا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ، فنقول زيدٌ قائمٌ، وقائمٌ زيدٌ.
فرع:
799- لا ينبغي أن يبتدىء المقتدي التكبيرَ إلا إذا نجزت تكبيرة الإمام، فلو افتتح التكبير مع الإمام، أو أتى بها في أثناء تكبير الإمام، لم تنعقد صلاته.
ولو ساوق المقتدي الإمامَ في الأركان التي تقع بعد العقد، وكان يركع معه، ويرفع معه، جاز. وإنما تمتنع المقارنة في التكبير، والسبب فيه أن إنشاءَ الاقتداءِ إنما يصحُّ بمن انعقدت صلاتُه، وإنما تنعقد الصلاة عند نجاز التكبير.
وقد يقول من يحاول التحقيقَ: لا معنى للعقد والحلِّ، ولكن التكبير ابتداء العبادة، والتسليم آخرها. ولكن ما ذكره الأصحاب يوضح أثر العقد؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك، لصحّت مساوقة الإمام في التكبير. ومن الدليل على أثر العقد أن من ابتدأ التكبير ولم يكمله لا نقول: بطلت صلاتُه، بل نقول: لم تحصل، ولم تنعقد في أصلها. وليس كما لو كبّر ثم انكفَّ؛ فإنه قد تبطل صلاتُه بعد القطع بانعقادها.
فصل:
800- إذا صادف المسبوقُ الإمام راكعاً، فكبَّر للعقد قائماً، ثم كبر ليهوي فهذا هو الأمر المدعوُّ إليه. وإن اقتصر على تكبيرةٍ واحدةٍ، وأوقعها في حالة القيام، ولكنّه نوى بها تكبير العقد، وتكبيرَ الهُويِّ جميعاًً، فقد أجمعت الأئمة على أن صلاته لا تنعقد.
ولو أتى بتكبيرة واحدةٍ، وقصد بها العقدَ، وقصدَ ترك تكبير الهُوي، صحت صلاتُه.
ولو أتى بتكبيرةٍ واحدةٍ، ولم يخطر له تركُ تكبيرة الهُويِّ، ولا قصد التشريك، ولكنه أتى بتكبيرة واحدةٍ مطلقة، فقد حكى العراقيون عن الأمّ، أن الصلاةَ لا تنعقد، ويكون هذا كما لو قصدَ التشريكَ بين العقد وتكبير الهُويِّ، وزعموا أن الشرط عند الاقتصار على تكبيرة واحدةٍ، القصد إلى إيقاعها عن جهة العقد، وإذا لم يكن قصد مجرد إلى ذلك، فهو كقصد التشريك.
وكان شيخي يذكر هذا وجهاً غيرَ منصوص، ويذكر وجهاً آخر: أن الصلاة تصحّ عند الإطلاق، ووجهه بيِّن منقاس؛ فإن التكبيرة الأولى في وضع الشرع للعقد، فإذا اقترنت النيّة بها، أو بأولها-كما سبق ذلك- فنفس اقتران النية يجردها للعقد، فالذي نسمّيه مطلقاً في حكم المقيَّدِ، بسبب ارتباط نية العقد. وهذا ظاهر.
فرع:
801- إذا كان المرء عاجزاً عن الإتيان بلفظ التكبير، وكان حديث العهد بالإسلام، وقد لا يطاوعه اللسان إلا بمقاساةٍ وتمرينٍ وتعلّمٍ، فينبغي أن يأتي بمعنى التكبير-إن كان يحسن معناه- وقال الأئمة: يتعيّن الإتيان بمعناه-وإن كان بالفارسيّة- ولا يقوم ذكرٌ آخر يُحسنه مقام التكبير؛ فإن معنى التكبير أقرب إليه من ذكر آخر.
وقد قال الأئمة: من عجز عن قراءةِ القرآن، أتى بأذكارٍ، ولم يوجبوا الإتيان بمعناه، بل قالوا: لو أتى بمعنى الفاتحة، لم يعتد به.
وكان شيخي يفرق بين البابين، ويقول: الغرض الأظهر من قراءة القرآن الإتيان بنظمه على ترتيبه، ثم المعنى تابع للنظم، والمعجز من ذلك هو النظم، واعتبار عين معنى التكبير أغلب. فإذا عجز المصلي عن القراءة، سقط اعتبار المعنى. وليس كذلك التكبير. وتحقيق ذلك أن معنى الفاتحة لا ينتظم ذكراً.
ومعنى التكبير ينتظم ذكراً، كما ينتظم التكبير في لفظه، وهو يشير إلى أن الغرض الأظهر، والشرف الأبهر في نظم القرآن.
وفيه دقيقة، وهي أن النظم إذا كان معجزاً، فلا يتأتى الاحتواءُ على لطف المعاني ودقائقها بالترجمة والتفسير. وسيأتي في فصول القراءة، أن من لا يحسن الفاتحة إذا كان يحسن غيرها من القرآن، فعليه الإتيان بما يحسن من القرآن على قدر الفاتحة، فلو كان لا يحسن من القرآن شيئاًً، ولكنه أتى بأذكار منتظمة تقع تفسيراً لبعض آيات القرآن، وكان ذكراً منتظماً كسائر الأذكار، فالذي أراه: أن ذلك يجزىء، ولا يمتنع إجزاؤه. أما ذكر تفسير آية حُكْمية، أو آية فيها قصة، أو وعد أو وعيد، فلا يعتد به.
وهذا واضح إذا تأمله الناظر.
802- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك: أن من أسلم، فعليه أن يبتدر تعلم شرائط الصلاة وأركانها، فإن قصر، ولم يتعلم التكبير الذي نحن في تفصيله، فلا يُقضى بصحة صلاته.
ولو كان الرجل يقطن بادية، والماء مُعوِزٌ بها، وكان يتيمم للصلاة-ولو انتقل إلى قرية، لاستمكن من استعمال الماء- فلا نكلفه الانتقال إلى القرى. وإن كان لا يلقى بالانتقال إليها عسراً.
ولو أسلم في موضع، ولم يجد من يعلّمه فيه التكبيرَ، وكان يقيم معنى التكبير مقامه، ولو انتقل إلى قرية لتأتَّى منه تعلم التكبير، فقد اختلف الأئمة: فذهب ذاهبون إلى أنه يجب عليه الانتقال والتعلم؛ فإن ذلك ممكن لا عسر فيه، وهذا هو الأصح؛ فإن بدل القراءة لا يحل محل التيمم، إذ أمرُ التيمم غيرُ مبنيّ على نهاية الضرورة بل ينويه للتخفيف والترخيص. وإقامة الذكر مقام القراءة مبني على نهاية الضرورة، وهذا يقتضي لا محالة التسبُّبَ إلى تعلم القرآن.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب الانتقال للتعلّم، وينزل إقامة الذكر مقام القراءة منزلةَ إقامة التيمم مقام الوضوء في مكان إعواز الماء. وهذا ضعيف.
فصل:
803- رفع اليدين مع التكبير سنة، وهو شعار من الصلاة متفق عليه في هذا المحل، ولتكن الأصابع منشورة، ولا يُؤثر اعتماد تفريجها، ولا نرى ضمّها، ولتكن بين بين، والضابط في هيئتها أن ينشر الأصابع، ويتركها على صفتها وسجيتها، ولا يعمد فيها ضم ولا تفريج، وإذا فعل ذلك، اقتصد الأمر في الانفراج.
ثم الذي شُهر نقلُه عن الشافعي أنه رأى رفع اليدين حَذْوَ المَنكِبين: روى أبو حميد الساعدي في عشرة من جلة الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا قام، اعتدل، ورفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكِبيه»، وقيل لما قدم الشافعي العراق اجتمع إليه العلماء كأبي ثور والحسين الكرابيسي وغيرهما، وسألوه عن الجمع بين الأخبار في منتهى رفع اليدين؛ إذ روي أنه رفعهما حذو منكبيه، وروي أنه رفع يديه حذو شحمة أذنيه، وروي أنه رفعهما حذو أذنيه. فقال الشافعي: إني أرى أن يرفع يديه بحيث يحاذي أطراف أصابعه أذنيه، ويحاذي إبهاماه شحمة أذنيه، وتحاذي ظهور كفه منكبيه، فاستحسن العلماء ذلك منه.
وقد تحقق أن الذي رآه أبو حنيفة من محاذاة الأذنين إنما عنى بها محاذاة الأصابع الأذنين، فعلى هذا يرتفع الخلاف، وقد تحققت أن من أئمتنا من يحمل مذهب الشافعي على محاذاة المنكب باليد، بحيث لا تجاوز الأصابع طرف المنكب.
فيخرج من ذلك، ومما حُكي من جمعه بين أخبار الرفع قولان: أشار إليهما الصيدلاني، أحدهما- مذهب الجمع كما تفصّل.
والثاني: محاذاة أطراف الأصابع طرف المَنكِب، والتعويل في ذلك على رواية أبي حُمَيْد الساعدي، ومقتضاها محاذاةُ المَنكِب، لا محاذاةُ الأذن والمَنكِب، وهي أصح الروايات.
وهذا بيان صفة اليدين، وذكر منتهى رفعهما.
804- والذي يتم به الغرض وقتُ رفعهما وخفضهما. وقد ذكر أئمتنا في وقت الرفع والخفض ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يرفع يديه غير مكبر، فإذا انتهت نهايتَها كبّر، وأرسل مع التكبير يديه، فيقع الإرسال مع التكبير وانتهاء اليد إلى مقرها من الصدر مع انتهاء التكبير، أو على القرب منه، وهذه رواية أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: يبتدىء الرفع مع ابتداء التكبير، فيقرب انتهاء التكبير من انتهاء اليد نهايته في الرفع، وهذه رواية وائل بن حُجْر.
والثالث: أنه يرفع يديه ويقرهما قرارهما، ويكبر وهُما قارّتان، ثم يرسل يديه بعد الفراغ. وهذه رواية عن ابن عمر.
ثم من أئمتنا من رأى الأوجه اختلافاً، وكان شيخي يقول: ليس هذا باختلاف، ولكن الوجوه كلها سائغة؛ إذ الرجوع فيها إلى الأخبار، ولا مطمع في ترجيح وجه على وجه بمسلك معنوي. وإذا صحت الروايات، فلا وجه إلا قبول جميعها، ولم يصح عندنا ترجيح رواية على رواية، بوجه يوجب الترجيح في الروايات.
وحكى الأئمة عن الشافعي أنه إذا كان لا يتأتى منه رفع اليد على النظم الذي ذكرناه، وكان يتمكن من مجاوزة الحد الذي ذكرناه في الرفع، فليرفع يديه على ما يتمكن منه، وإن كان مجاوزاً للحد.
فصل:
قال: "ولا يكبر حتى يسوي الصفوفَ خلفه".
805- ينبغي أن يعتني الناس بتسوية الصفوف قبل تكبير الإمام، ثم لا يكبر الإمام حتى يظن أن الصفوف قد استوت.
ثم يقع قيامُ الناس، وهمُّ الإمام بالتكبير بعد فراغ المؤذّن عن الإقامة.
وأبو حنيفة يقول: يسوون الصفوف عند قوله: "حي على الفلاح"، وقال: يكبر قبل قوله: "قد قامت الصلاة" إلا أن يكون المؤذن هو الإمام، فلا وجه إلا أن يفرغ.
فصل:
"ثم يأخذ كوعه اليسرى... إلى آخره"
806- ينبغي للمصلي أن يضع يمناه على يسراه، وكيفيته أن يأخذ الكوع من يده اليسرى بكف يده اليمنى؛ بحيث يحتوي عليه وكان شيخي يذكر لذلك صورتين، ويحكي عن القفال التخيير فيهما: إحداهما- أن يقبض بكفه اليمنى على كوعه من يسراه، ويبسط أصابعه على عرض المفصل.
والثانية- أن يأخذ كوعه من يسراه من أعلى، وينشر أصابعه في صوب ساعده، وهو في الوجهين قابض على كوعه، ويده اليمنى عالية.
وأبو حنيفة يقول: يضع بطنَ كفه اليمنى على ظهر كوعه من يده اليسرى من غير احتواء، ثم يضع يديه تحت صدره.
قال الشيخ أبو بكر: لم أر ذلك منصوصاً عليه للشافعي في شيء من كتبه، ولكن الأئمة اعتمدوا فيه نقل المزني، وقالوا: لعل ما نقله اعتمد فيه سماعه من الشافعي.
فصل:
"ثم يقول: وجهت وجهي... إلى آخره".
807- ينبغي إذا عقد الصلاة أن يُعْقب عقدها بقراءة: وجهت وجهي.. إلى آخره، ثم يستعيذ قبل قراءة الفاتحة، واختلف قول الشافعي في الجهر بالتعوّذ في الصلاة الجهرية، فنصَّ في القديم على أنه يجهر في الصلاة الجهرية، ونص في الجديد على أنه لا يجهر بالتعوذ أصلاً.
ثم اختلف أئمتنا في أنَّا هل نستحب التعوّذ في مفتتح كل ركعة، أو يقتصر على التعوذ في أول الركعة الأولى؟ وفيه وجهان مشهوران: والأصح- أنه يتعوذ في أول كل ركعة، متصلاً بقراءة القرآن فيها.
فصل:
"ويقرأ فاتحة الكتاب... إلى آخره".
808- قراءة الفاتحة محتومة على كلِّ مصلٍّ يحسن القراءة. ولا يقوم غيرُ الفاتحة من السور مقامَها، ويجب افتتاحها بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم. فمذهبنا أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة. وقد روى محمد بن إسماعيل البخاري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عدّ فاتحة الكتاب سبع آيات، وعدّ بسم الله آية منها"، ثم التسمية من القرآن في أول كل سورة، خلا سورة التوبة، وهي محسوبة آيةً في أول الفاتحة، وهل تكون آية من كل سورة؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنها آية تامة حيث كتبت في أوائل السور كسورة الفاتحة.
والثاني: أنها مع صدر السورة آية، وليست آية تامة إلا في أول الفاتحة، وهذا القائل استدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سورة تجادل عن ربها، وهي ثلاثون آية، ألا وهي سورة الملك»، ثم تلك ثلاثون آية دون التسمية، فإذن على هذه الطريقة التسمية من القرآن في أول كل سورة، وإنما اختلف القول في أنها تُعدّ آية بنفسها أم لا؟
وذكر الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب طريقة أخرى، وهي أن التسمية من القرآن في أول الفاتحة، وهل هي من القرآن في أوائل السور؟ فعلى قولين، والصحيح الطريقة الأولى.
وذكر العراقيون خلافاً في أن كون بسم الله من القرآن في أوائل السور معلوم أو مظنون، وهذا غباوة عظيمة؛ لأن ادعاء العلم-حيث لا قاطع- محال.
ثم قراءة الفاتحة ركن في صلاة الإمام والمنفرد، وأما المأموم، فإنه يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وهو حتم واجب عليه، ولا فرق بين أن تكون الصلاة جهرية أو سرية.
وحكى المزني قولاً آخر عن الشافعي: أنه إن أسر الإمام، قرأ المأموم حتماً، وإن جهر القراءة، سقطت القراءة عن المأموم. وهذا مذهب مالك، والمزني لم ينقل بنفسه عن الشافعي إلا هذا القول، ونقل القول الأول عن الأصحاب عن الشافعي.
فهذه قواعد المذهب في القراءة، ونحن الآن نبتدىء تفصيل المذهب في القراءة في فصلين:
أحدهما: في قراءة القارىء القادر على القراءة.
والثاني: في قراءة العاجز عن قراءة الفاتحة. فأما
الفصل الأول
809- من تمكن من قراءة الفاتحة، لزمته. وقد ذكرنا التفصيل في المأموم. ثم يجب الإتيان بحروف الفاتحة من مجاريها، فلو أخل بحرفٍ، لم تصح الصلاة، ومن الإخلال تخفيف المشدَّد؛ فإن المشدّد حرفان مِثلان أولهما ساكن، وإذا خفَّفَ، فقد أسقط حرفاً. وكان شيخي يتردد في إبدال الضّاد ظاءً في قوله (ولا الضالين)؛ فإن هذا لا يتبين إلا للخواصّ، وهو مما يتسامح فيه عند بعض أصحابنا. والصحيح القطع بأن ذلك لا يجوز؛ فإن الظاء والضاد حرفان متغايران، فإذا حصل الإبدال، فالذي جاء به ليس الحرف المطلوب.
810- ثم لو ترك الفاتحة من أوجبناها عليه عامداً، لم تصح صلاته، ولو تركها ناسياً، فالمنصوص عليه في الجديد-وهو المذهب- أن الركعة التي خلت عن قراءة الفاتحة لا يُعتد بها، وتركُ القراءة ناسياً كترك الركوع والسجود.
ونُسب إلى الشافعي قولٌ قديم: أنه يُعذر التارك ناسياً، وتصح الركعة، وجعل النسيان بمثابة إدراك المقتدي الإمامَ راكعاً؛ فإنه يصير مدركاً للركعة وإن لم يقرأ.
وهذا قول متروك، لا تفريع عليه، ولا يعتد به.
811- ثم يجب على القارىء رعاية الترتيب في القراءة، فلو قرأ الشطر الأخير من الفاتحة أولاً، لم يعتد به؛ فإن القرآن معجزٌ، والركن الأَبْين في الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب.
ولو قدم أواخر التشهد، وأخر أوائله، فإن غيره تغيراً يَبطُل به معناه، فلا شك أن ما جاء به ليس محسوباً. وإن تعمد ذلك، بطلت صلاته؛ فإنه جاء بكلام غير منتظم عمداً، وإن كان تقديماً وتأخيراً-وكل كلام مفيد في نفسه- فالذي ذكره الأئمة: أن ذلك لا يضر؛ فإنه جاء بالتشهد، وليس الكلام معجزاً في نفسه، فيؤثرَ فيه تبديل الترتيب، والمعنى لم يختلف.
وذكر شيخي في التشهد-إذا غير ترتيبه تغييراً تقديماً أو تأخيراً- وجهين، وليس ذلك بعيداً، وهو بعينه الخلاف المذكور فيه، إذا قال الأكبر الله؛ فإنه في تغيير الترتيب تاركٌ لطريق الاتباع، وقد ذكرنا أن معتمد الشافعي في العبادات البدنية التي لا تتعلق بأغراض جزويّة مفهومة- الاتباعُ.
فهذا تفصيل القول في رعاية الترتيب.
812- وذكر العراقيون وجهاً أن ترك الموالاة بالسكوت الطويل قصداً عمداً، لا يبطل القراءة، وهذا مزيف متروك، وإن كان لا يبعد توجيهه.
وتجب أيضاً رعاية الموالاة في القراءة، فلا ينبغي أن يخلل القارىء بين قراءته سكوتاً طويلاً يقطع الولاء، أو ذكراً ليس من القراءة، فإن تخلل سكوتٌ طويل- والمعتبر فيه أن يسكت سكوتاً يُشعر مثله بأن القراءة قد انقطعت، إما باختيار أو بمانع- فهذا هو السكوت القاطع للولاء.
وأما تخلل الذكر، فالذي ذكره الأئمة أنه إذا أدرج القارىء في أثناء القراءة ذكراً تسبيحاً، أو تهليلاً، فتنقطع موالاة القراءة، وإن كان ذلك الذكر قليلاً واقعاً في زمان لا ينقطع الولاء بالسكوت في مثله.
وقد صح عندنا أنا وإن كنا نشترط اتصال الإيجاب بالقبول في العقود، فلو تخلل بين الإيجاب والقبول كلام من أحدهما قريب لا يضر تخلله، على تفصيل وضبط سيأتي في موضعه، ونص الشافعي دال على ذلك، فإنه قال في كتاب الخلع: "لو قال لامرأتيه: خالعتكما، فارتدتا، ثم قالتا: قبلنا، ثم عادتا إلى الإسلام، قبل انقضاء العدة، فالخلع صحيح"، وقد تخللت كلمة الردّة.
ولو تخلل بين الإيجاب والقبول سكوت طويل، لم ينعقد العقد. فتخلل السكوت استوى فيه القراءة والعقد، وافترقا في تخلل الذكر، والسبب فيه أن من أدرج ذكراً في أثناء القراءة؛ فإنه يجري في انتظام القراءة حتى كأنه منها، وذلك يُغيّر النظمَ والترتيبَ والإعجازَ. والإيجابُ والقبول صادران من شخصين، وقد ورد التعبد باتصال الجواب بالإيجاب؛ فإن للجواب اتصالاً-في مطرد العرف- بالخطاب يكون لأجله جواباً، والسكوت الطويل إذا تخلل يقطع الجوابَ عن الإيجاب. وإذا صدر كلام يسير عن أحد المتعاقدَيْن، لم يُشعر مقداره بإضراب المخاطب عن الجواب- لم يضر تخلله. وفي القراءة يختلط الذكر بالمقروء، ويجري في أدراجه، وليس هذا من قبيل ما ذكرناه من رعاية الاتصال بين الإيجاب والقبول.
فيخرج من ذلك أن تخلل الذكر ليس مؤثراً في القراءة من حيث يقطع ولاءها، ولكن من حيث يغير نظمَها.
ولو فرض سكوت في أثناء القراءة لا يقطع مثلُه الولاء، وفرض فيه ذكرٌ يسير، لا بصوت القراءة، بحيث لا ينتظم بالقراءة، فلست أبعد في هذه الصورة أن يقال: لا تنقطع القراءة، والله أعلم.
813- وقد ظهر اختلاف الأئمة في أنه إذا أمّن الإمام في آخر الفاتحة، وكان المأموم في أثناء قراءة فاتحته، فأمّن عند تأمين الإمام، فهل تنقطع قراءته بهذا؟ فذهب ذاهبون إلى أن القراءة. تنقطع، وهذا قياس ما ذكرناه.
وصار صائرون إلى أنها لا تنقطع، وليس يتجه عندي هذا الوجه إلا بما رمزت إليه من أن المحذور ألاّ ينتظم الذكر بالقراءة، وإذا جرى في أثناء الكلام شيء هو محمل الذكر، ويظهر به أن الذكر لم يجر في نظم القراءة، كالتأمين عند تأمين الإمام، فهذا يبيّن انقطاع الذكر عن الانتظام، فلذلك جرى الخلاف فيه.
814- وكذلك كان شيخي يذكر خلافاً في أن الإمام لو كان يقرأ السورة، والمأموم في أثناء الفاتحة، فانتهى الإمام إلى آية الرحمة، وطلب للرزق، فقال المأموم: اللهم ارزقنا-وهذا مما نستحبه كما سيأتي- فهل تنقطع القراءة؟ فعلى وجهين. وهو ملتحق بالمعنى الذي ذكرناه في مسألة التأمين؛ فإن ارتباط ما تخلل بما طرأ من الإمام يقطعه عن تخلل الانتظام بالقراءة.
815- وإذا انتهى الإمام إلى آيةٍ فيها سجدة والمأموم في خلال القراءة، فيسجد، والمأموم يسجد متابعاً لا محالة، وهل تنقطع القراءة؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، فهذا وجه الكشف في تحقيق القول في ذلك.
816- ومن تمام القول في هذا، أن العراقيين حكَوْا عن نص الشافعي ما يدل على أنه لو ترك الموالاة ناسياً، لم يضر، وهذا مفرعّ على أنه لو ترك القراءة أصلاً، ناسياً، لم يعتد بالركعة، ومع هذا حكَوْا النص في أن ترك الولاء ناسياً غير ضائر.
وهذا غير سديد عندي، فإن ترك الولاء إذا كان تختل به القراءة، فاذا جرى على حكم النسيان، فهو بمثابة ترك القراءة ناسياً.
وقد ذكر شيخي ما ذكره العراقيون وزاد كلاماً، فقال: لو ترك الترتيب في قراءة الفاتحة ناسياً، لم يعتد بقراءته، ولو أخلّ بالموالاة ناسياً، احتسب بالقراءة، وقال في تحقيق الفرق: ولو أخل الرجل بترتيب الأركان ناسياً، فسجد قبل الركوع، لم يعتد بالسجود، ولو طوّل ركناً قصيراً، وأخل بالموالاة بهذا السبب، لم يضر، واعتدّ بما جاء به، فكذلك يفرق بين ترك الترتيب والموالاة على حكم النسيان في القراءة. وهذا صحيح؛ فإن ترك الولاء يُخل بالقراءة إخلالَ ترك الترتيب كما تقدم.
فهذا نقل ما قيل، مع ما فيه من الاحتمال.
817- ولو كرر القارىء الفاتحة أو كلمة من الفاتحة كان شيخي لا يرى بذلك بأساً إذا كان سبب ذلك شك من القارىء، في أن تلك الكلمة هل أتت على ما ينبغي أم لا؟، فإنه معذور، وإن كرر كلمة منها قصداً من غير سبب، كان يتردد في إلحاق ذلك بما لو أدرج في أثناء الفاتحة ذكراً.
818- والذي أراه أن وِلاء الفاتحة لا ينقطع بتكرر كلمة منها، كيف فرض الأمر؛ فإن الذي عليه المعول في إدراج الذكر ما قدمناه من انتظام الذكر بالقراءة، وإفضاء ذلك إلى اختلاف النظم، وإذا كرر القارىء شيئاًً من الفاتحة، لم يؤدّ التكرير إلى ما أشرنا إليه.
والعلم عند الله.
فهذا مجامع القول في قراءة الفاتحة في حق من يحسنها.
فأما:
الفصل الثاني
فهو في تفصيل القول في الأُميّ
819- والأُمي في اصطلاح الفقهاء من لا يحسن الفاتحة، أو لا يحسن بعضَها، ويحسن بعضها.
فأما إذا كان لا يحسن منها شيئاًً، فلا يخلو إما إن كان يحسن شيئاًً من القرآن، أو كان لا يحسن شيئاًً من القرآن، فإن كان يحسن من القرآن سورة أو سوراً، فعليه أن يقول من القرآن ما يقع بدلاً عن الفاتحة.
820- ثم قال الأئمة: الفاتحة سبعُ آيات، فليأت بسبع آيات، ثم إن كانت قصاراً بحيث لا يبلغ عدد حروفها عددَ حروف الفاتحة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يجزئه ما جاء به نظراً إلى مقابلة الآي، ولا مؤاخذة بالحروف وعددها.
ومنهم من قال: لابد من رعاية أعداد الحروف؛ إذ بها حقيقة المقابلة والمماثلة، وأجزاءُ القرآن كالأسباع وغيرها تعتمد الحروف.
ولو قرأ آية طويلة بلغ عددُ حروفها عددَ حروف الفاتحةّ، واقتصر عليها، فقد حكى الأئمة أن ذلك لا يجزىء ولا يكفي.
ولم أر في الطرق في ذلك خلافاً، فعدد الآي مرعي إذن، وفي عدد الحروف خلاف، ولعل سبب الوفاق في عدد الآي، ما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم عد فاتحة الكتاب سبعَ آيات»، وقال تعالى في ذكرها {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] فاقتضى اعتناءُ الكتاب والسنة بآياتها عددَ الآي بَدَلَها. والحروفُ على التردد كما حكيناه.
821- وكان شيخي يقول: إذا راعينا مقابلةَ الحروف، فيجب رعاية الترتيب، كما نصفه: وهو أن يأتي في مقابلة الآية الأولى بآية تشتمل على عدد حروف تلك الآية أو تزيد، وإن كان لا يحسن إلا الآيات القصار، فيقابل الآية بالآيتين، وهكذا إلى تمام الفاتحة.
وكان يقول: لو قرأ ست آياتٍ من القصار التي لا تفي حروفُها بعدد حروف الآيات الست الأُوَل، ثم قرأ آية طويلة تجبر ما كان من نقصان، وتقابل حروف الآية الأخيرة، وقد يزيد- قال: هذا لا يجوز؛ فإنه لم يراع في الآيات الست المقابلةَ المشروطةَ؛ فصارت الآية الأخيرة في حكم آية واحدة يقابل حروفها حروفَ جميع الآيات. وكان رضي الله عنه يقطع بهذا.
والذي أراه أن هذا لا معنى لاشتراطه بعد ما حصلت مقابلة الآي ورعاية عدد الحروف على الجملة.
822- ولو كان يحسن سبع آيات متفرقات، فيأتي بها وتجزئه. ولو كان يحسن سبع آيات على الوِلاء، فأراد أن يأتي بسبع متفرقة، كان رضي الله عنه يمنع ذلك، وهو ظاهر لا يتجه غيره. وفي الإتيان بسبع آيات متفرقات إذا كان لا يحسن غيرها نظرٌ في صورة واحدة، وهي أن الآية الفردة قد لا تفيد معنى منظوماً ولو قرئت وحدها مثل قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21]، فيظهر ألاّ يكتفى بإفراد هذه الآيات، فيردّ إلى الذكر، كما سنذكره.
823- ومما يتعلق بهذا، أنه إذا كان لا يحسن من القرآن إلا آية واحدة مثلاً، فقد ظهر اختلاف أئمتنا في أن الواجب في بدل الفاتحة ماذا؟ فقال بعضهم: يُكرر تلك الآية سبعاً، ويكفيه ذلك، وقال بعضهم: يأتي بها مرة واحدة، ويأتي بالأذكار في مقابلة ست آيات.
ولم يوجب أحدٌ الجمع بين التكرار والذكر؛ فإن التكرار إن وجب فعلى مقابلة الآيات الباقية، ولا يجب على مقابلتها بدلان: الذكر وتكرير الآية، وهذا مع الالتفات إلى رعاية الحروف.
والخلاف في هذا كله إذا كان يحسن شيئاًً من القرآن.
824- وأما إذا كان لا يحسن من القرآن شيئاًً، فإنه يأتي بدلاً عن الفاتحة بأذكار، وينبغي أن تكون أذكاراً عربية إن كان يحسنها، ثم ذكر الأئمة التسبيح والتهليل، ولا شك أن المرعي مقابلة الحروف؛ فإنه ليس في الأذكار مقاطع وغايات على مقابلة الآيات، فليس إلا اعتبار الحروف، ثم كان شيخي يقول: إن جرد التسبيح والتهليل جاز، وإن جرّد الدعاء، ففيه احتمال، هكذا كان يقول رضي الله عنه، ولعل الأشبه أن الدعوات التي تتعلق بأمور الآخرة تنزل منزلة التسبيح، وأما بمآرب الدنيا، فيبعد الاعتداد به مع القدرة على غيره.
فرع:
825- إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة، فهل يكفيه أن يكررها سبعاً؟ أم يأتي بها مرة واحدة، ويأتي بالذكر بدلاً عن الست؟ فعلى وجهين مشهورين، لا يخفى توجيههما.
826- ولو كان يحسن آية واحدة من الفاتحة، فهل يكفيه أن يكررها أم يأتي بها، ويأتي بست آيات إن كان يحسنها من غيرها؟ فعلى وجهين أيضاً.
فإن قلنا: يكفي التكرير، فإن كان يحسن آيتين مثلاً، ففي التكرير احتمال، يجوز أن يقال: يكررهما أربعاً، وقد كفى؛ فإنه أتى بالسبع، وزاد، فليتأمل الناظر ذلك، فهو محل النظر. فهذا الفرع ملحق بما تقدم. فهذا كله إذا كان لا يحسن الفاتحة، ولا شيئاًً من القرآن.
وذكر العراقيون: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم أعرابياً كان لا يحسن الفاتحة ولا شيئاًً من القرآن أن يقول بدل القراءة: «سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
ثم ذكروا وجهين في أن هذه الأذكار تتعين أم لا. وتعينها بعيد عندنا.
827- فأما إذا كان يحسن بعض الفاتحة، فيلزم الإتيانُ بما يحسنه، فإن كان من صدر الفاتحة أتى به أولاً، ثم أتى بالبدل عما لا يحسنه. وإن كان يحسن النصفَ الأخير، فيلزمه أن يأتيَ بالبدل أولاً. ثم يأتي بما يحسن، ورعاية الترتيب في هذا واجب، اتفق عليه أئمتنا. وليس علّةُ الترتيب في هذا علةَ الترتيب في تلاوة الفاتحة في حق من يحسنها؛ فإن الترتيب يراعى في قراءة الفاتحة محافظةً على نظمها، وليس بين الأذكار التي قُدّرت بدلاً عن النصف الأول، وبين النصف الثاني انتظام. ولكن هذا الترتيب يُتلقى من اشتراط الترتيب في أركان الصلاة؛ فعليه فرض قبل النصف الثاني، فليُقِمه. ثم ليأتِ بالنصف الثاني. ويجوز أن يقال: يأخذ البدلُ حكمَ المبدل، والترتيب شرط في فاتحة الكتاب لعينها، فنزل بدل النصف الأول منزلته في رعاية ترتيب النصف الآخر عليه.
فهذه قواعد المذهب في الفاتحة: ونحن نرسم بعدها فروعاً تستوعب ما شذّ، وتقرّر القواعد.
فرع:
828- الأمي إذا تعلم الفاتحة في أثناء الركعة، نُظِر، فإن تعلَّمها قبل أن يخوض في البدل، فعليه قراءة الفاتحة، وإن فرغ من البدل ولم يركع بعدُ، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يلزمه قراءة الفاتحة؛ فإن وقت القراءة ومحلها باقٍ قائم.
والثاني: لا يلزم؛ لأن البدل قد تم، وسقط الفرض فيه، فلا معنى لعود الفرض بعد سقوطه، وهو كما لو أتى من لزمته الكفارة بالبدل، فلا أثرَ لوجود المبدل.
والقائل الأول يقول: كون الأذكار بدلاً ووقوعها كذلك يتوقف على انقضاء القيام؛ فإن من كان يُحسن الفاتحة قد يُوقع أذكاراً قبل القراءة، فلا يتبين وقوع الذكر بدلاً إلاّ عند الاكتفاء به والتلبس بالركوع، والصيام الواقع بدلاً في الكفارة مصروف بالنية إليها. وآحاد الأذكار لا تتناوله النية تخصيصاً.
829- ومما يتعلق بهذا، أن الأمي إذا افتتح الصلاة، وقصد إقامة دعاء الافتتاح بدلاً عن الفاتحة، فإنه يقوم مقامها. ولو قصد أن يقع مسنُوناً كما شُرع، فيجب القطع بأن الفرض لا يسقط والقصدُ كما ذكرناه؛ فليأتِ عن الفاتحة ببدلٍ.
ولو أتى بأذكار سوى دعاء الاستفتاح، ولم يقصد إقامتها بدلاً، فقد تردد صاحب التقريب في هذا، وهو محتمل حسن. والذي ذكرته من تعليل أحد الوجهين في أول هذا الفرع يشير إلى هذا، فإني قلت: لا يقع الذكر في عينه بدلاً إلا بانقضاء وقته، فلا يمتنع أن يقال: لابد من قصد في إيقاعه بدلاً.
830- ولو اشتغل بالذكر، ولم ينقضِ بعدُ، حتى تعلم الفاتحة، فالأصحّ الذي يجب القطع به أنه يجب قراءة الفاتحة.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا يجب قراءة الفاتحة؛ فإن الاشتغال بالبدل يُسقِط رعايةَ المُبدل؛ فإن من شرع في صيام الشهرين المتتابعين، ثم وجد الرقبة، لم يلزمه إعتاق الرقبة.
وهذا الوجه أطلقه الناقلون. وهو خطأ صريح عندي؛ فإنا قد ذكرنا أن من كان يحسن نصف الفاتحة، لزمه الإتيان بما يحسن والبدل عما لا يحسن، فالقراءة إذن تتبعض في هذا الحكم، فالوجه القطع بأنه إذا أتى بنصف الأذكار مثلاً، وتعلم الفاتحة، فيتعين الإتيان بالنصف الأخير من الفاتحة وجهاً واحداً، وفي قراءة النصف الأول تردّدٌ، وليس ذلك كالأصل والبدل في الكفارة؛ فإن بعض الرقبة لا يسد مسداً، وهذا واضح.
ولو تعلم الفاتحة بعد الركوع، فلا شك أن تيك الركعة مضت معتدّاً بها.
فرع:
831- إذا كرّر فاتحة الكتاب في ركعة مرتين قصداً، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن الصلاة لا تبطل وذهب أبو الوليد النيسابوري إلى أن الصلاة تبطل بهذا، واحتج بأن من زاد في الركعة ركوعا قصداً، بطلت صلاتُه، والقراءة ركنٌ، فإذا تكررت، كان كالرّكوع يكرر، وعدّ الأصحاب هذا من غوامض محالّ الاستفراق، والأمر في ذلك قريب.
فنقول: إنما تبطل الصلاة بزيادة ركوع، من حيث إن ذلك يُظهر خروج الصلاة عن النظم، والذي يوضّح ذلك أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة؛ لأن النظم لا يفسد به ولا يختل، وإذا زيد ركن، ظهر به الاختلال، وإن كان ركوع واحد لا يبلغ مقدار الفعل الذي يُفسد الصلاة لكثرته، ولكن كالفعل الكثير من جهة اختلاف نظم الصلاة به، ونظم الصلاة لا يختلف بتكرير الفاتحة، فلا يؤثر في بطلان الصلاة.
فرع:
832- ذكر العراقيون عن نصّ الشافعي: "أن الأخرس الذي لا ينطق لسانه بالفاتحة، يلزمه أن يحرك لسانه بدلاً عن تحريكه إياه في القراءة، والتحريك من غير قراءة كالإيماء بالرّكوع والسجود"، وهذا مشكل عندي؛ فإن التحريك بمجرده لا يناسب القراءة ولا يدانيها، فإقامته بدلاً بعيدٌ، ثم يلزم على قياس ما ذكروه أن يلزموا التصويت من غير حروف مع تحريك اللسان، وهذا أقرب من التحريك المجرد.
وعلى الجملة، فلست أرى ذلك بدلاً عن القراءة لما ذكرته، ثم إذا لم يكن بدلاً، فالتحريك الكثير يلتحق بالفعل الكثير، على ما سيأتي مشروحاً في الأفعال.
فصل:
833- ذكر صاحب التقريب أن المصلي إذا كان في أثناء قراءة الفاتحة، فنوى قطعها عقداً، ولم يقطعها فعلاً، فلا أثر لهذه النية. وليس كما لو نوى قطع الصلاة؛ فإن ذلك يتضمّن قطع نية الصلاة وهي رابطتها، فإذا عمد قطعها بطلت. وهذا ظاهر لا شك فيه، ولكني أحببت نقله منصوصاً.
فصل:
قال: فإذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال: "آمين".
834- آخر الفاتحة، {وَلَا الضَّالِّينَ}، فإذا انتهت استحببنا لمن أنهاها أن يقول: آمين، وفيه لغتان: القصر والمد، والميم مخففة على اللغتين، والصحيحُ أنه من الأصوات، وُضع لتحقيق الدعاء، والمراد به: "ليكن كذلك" كما أن المراد من قوله: "صه" أي اسكت، فيؤمّن المنفرد والإمام والمأموم. وإذا قال الإمام " ولا الضالين" أمّن، ويؤمّن المقتدون به.
835- ثم الإمام في الصلاة الجهرية-وفيها الفرض- يؤمّن، ويرفع صوته بالتأمين، ويتبع التأمين القراءةَ، وكما يجهر بها يجهر بالتأمين، وهذا يقوّي أحد الوجهين في الجهر بالتعوّذ، فإنه تابع للقراءة كالتأمين.
والمأموم يؤمّن وإن لم يكن ذلك آخر تلاوته للفاتحة؛ فإنه كان يستمع، وآخر الفاتحة دعاء، والتأمين بالمستمع المشارك في الدعاء أليق في سجية الداعين منه بالداعي نفسه، فإذا كان الإمام يؤمّن أمّن من خلفه، ولهذا قال أبو حنيفة: لا يؤمّن الإمامُ ويؤمّنُ المقتدِي، ويُسرّ.
836- ثم إذا ثبت أن الإمام يجهر بالتأمين، فالمقتدي هل يجهر بالتأمين؟ اختلف نص الشافعي: فقال في موضع: يجهر، وقال في موضع: لا يجهر، واختلف الأئمة، فذهب الأكثرون إلى أن المسألة على قولين، ثم اختلف هؤلاء: فذهب جمهورهم إلى طرد القولين في كل صورة، أحدهما- أن المقتدي لا يجهر، كما لا يجهر بالقراءة وشيء من أذكار صلاته، وإنما الجهر للإمام.
القول الثاني أنه يجهر لما روي عن أبي هريرة أنه قال: "كان إذا أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّن من خلفه، حتى كان للمسجد ضجة، وروي لجة" والمعنى أن المقتدي متابعٌ لإمامه في التأمين؛ فإنه ليس يؤمّن لقراءة نفسه، وإنما يؤمّن بسبب انتهاء قراءة إمامه، فليتبعه في الجهر، كما يتبعه في أصل التأمين.
واعتمد أئمتنا من القولين هذا، ولم يَرَوْا في حديث أبي هريرة متعلقاً؛ فإن الناس إذا كثروا وأسمع كل واحد نفسه معاً، فيحصل من مجموع أصواتهم هينمة وضجة، فيمكن أن يحمل الحديث على ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إن لم يجهر الإمام بالتأمين في الصلاة الجهرية، جهر به المقتدي قولاً واحداً. وإن جهر الإمام، فهل يجهر المأموم؛ فعلى قولين، وهذا التفصيل ذكره العراقيون، وكان شيخي لا يراه ولا يذكره.
ويمكن توجيه ما فصلوه من القاعدة التي نبهنا عليها في التأمين، وما فيه من رعاية التبعية.
837- وذكر العراقيون طريقة أخرى، وقالوا: من أئمتنا من قال: ليست المسألة على قولين، والنّصان منزلان على حالين،- فحيث قال: "لا يجهر المأموم"، إذا قلّ المقتدون، وقربوا من الإمام، أو صغر المسجد، وكان القوم يبلغهم صوتُ الإمام، فإذا أسمعهم، كفى ذلك لمن سمعوه، كأصل القراءة. وإن كَبِر المسجد، وكان صوت الإمام لا يبلغ الجمع، فنؤثر للمقتدين أن يرفعوا أصواتهم حتى تبلغ أصواتُ الأقربين الأباعدَ. ثم لا يختص استحباب الرفع بقوم، بل نؤثر للجميع.
فهذا منتهى القول في ذلك.
838- ثم كان شيخي يقول: ينبغي للمقتدي أن يترصد فراغ الإمام عن قوله: "ولا الضالين"، فيبادر التأمينَ حينئذ، فيقع تأمينُه مع تأمين الإمام، وكان يقول: لا تستحب مساوقة الإمام ومقارنته في شيءٍ إلاّ في هذا؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في حديث صحيح: «إذا قال الإمامُ ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تؤمّن على ذلك، ومن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِر لهُ ما تقدم من ذَنبِه».
وما ذكره من استحباب المقارنة، يمكن تعليله بأن القوم لا يؤمّنون لتأمينه، حتى يرعوا في هذا ملابسته للتأمين أولاً، وإنما يؤمّنون لقراءته، وقد نجزت قراءته، فإذا وقع التأمين بعد نجاز القراءة، كان في أوانه وحينه.
فصل:
839- قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة، وقال أبو حنيفة: لا تجب في الركعتين الأُخريين، وإنما تجب في الركعتين الأوليين، وطرد مذهبه في جميع الحالات: منفرداً كان المصلي، أو إماماً، أو مقتدياً.
840- ثم قراءة السورة بعد الفاتحة مسنونة في حق المنفرد والإمام في الركعتين الأوليين، وفي ركعتي الصبح، وهل تستحب قراءة السورة في الثالثة من المغرب، والركعتين الأخريين من الصلوات الرباعية؟ فعَلى قولين منصوصين:
أحدهما:وإليه ميل النصوص الجديدة- أنها مستحبة في كل ركعة على إثر الفاتحة، لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "حزرنا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين الأوليين من الظهر، فكانت قدر سبعين آية، وحزرنا قراءته في الركعتين الأخريين، فكان على النصف من ذلك".
والقول الثاني-وعليه العمل- إن قراءة السورة لا تستحب بعد الركعتين الأوليين؛ فإن بناء ما بعداهما من الركعات على التخفيف، ويشهد له أنه لا يستحب فيهما الجهر في الصلوات الجهرية، ومن يرى قراءة السورة في الركعتين الأُخريين يؤثر أن تكون أخفَّ من الركعتين الأوليين، ويشهد له حديث أبي سعيد الخدري.
841- ومن تمام البيان في ذلك تفصيل القول في المقتدي:
فإن كانت الصلاة جهرية، وكان المأموم يسمع صوت الإمام، فلا يستحب له قراءة السورة، بل يقتصر على قراءة الفاتحة، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ إلاّ بها»، وتمام الحديث «أن أعرابياً اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " والشَّمْسِ وَضُحاها " فراسله الأعرابي، فتعسرت القراءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا تحلّل عن صلاتِه، قال: إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة إلاّ بها».
ولو كانت الصلاة سرّية أو بَعُدَ موقف المأموم وكان لا يسمع صوت الإمام، فهل يقرأ السورة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يقرأ، وهو القياس؛ فإن المقتدي كالمنفرد عندنا، غير أنه حيث يسمع يقدم الاستماع في السورة على القراءة، فإذا كان لا يستمع، فلا معنى لترك قراءة السورة.
والوجه الثاني- أنه لا يقرأ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤوا إلاّ بفاتحة الكتاب» ولم يفصل بين صلاة وصلاة.
والقائل الأول يؤوّل قولَه على الحكاية المروية في مراسلة الأعرابي إياه، ويخصص النهي عن قراءة السورة بالسامع في الصلاة الجهرية. وكان شيخي يقول: صح، أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتة بين الفراغ من الفاتحة وافتتاح السورة، فليبتدرها المقتدي، فإن انتجزت فيها قراءة الفاتحة، فذاك، وإن بقيت استتمها مع أول السورة.
فصل:
قال: "وإذا فرغ منها وأراد أن يركع... إلى آخره".
842- ذكرنا تفصيل القول في المفروض والمسنون من القراءة. ولا شك أن السورة تقرأ بعد الفاتحة، فلو قرأ المصلّي السورة أوّلاً، ثم الفاتحةَ، فقراءةُ الفاتحة مجزئة، ولكن هل يعتدّ بقراءة السورة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون وغيرهم، ولا يخفى توجيههما على من يحاوله.
843- والقيام ركنٌ في صلاة المفترض، ثم لا يضر خفض الرأس على هيئة الإطراق، ولكن يجب نصب الفقار، ولو ثنى شيئاًً من حَقْوه ومحل نطاقه، لم يجز، وإن ثنى فِقار ظهره، ولم يثنِ معقد النطاق-إن أمكن ذلك- فلا يسوغ أيضاً.
والمعتبر فيه أنا سنذكر أن الاعتدال عن الركوع واجب، والاعتدال الانتصاب التام، ولولا ما صحّ من هيئة الإطراق، لأوجبنا رفعَ الرأس للاعتدالِ.
844- ثم القدْر الذي تقع قراءة الفاتحة فيه من القيام مفروضٌ، وإذا مدّ المصلّي القيامَ، وزاد على ما يحوي قراءة الفاتحة، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنّا هل نحكم بأن جميع القيام فرض أم لا؟ وبنى هذين الوجهين على الوجهين، في أن من يستوعب رأسه بالمسح، فهل نقول: جميع المسح وقع فرضاً، أم لا؟
وهذا عندي كلام خارج عن ضبط الفقه؛ فإنه إذا جاز الاقتصار على ما يقع عليه اسم المسح، فكيف ينتظم القول بأن الزائد عليه فرض؟ ولولا تعرض هذا الإمام لحكاية هذا، وإلا كنت لا أرى ذكره.
ثم إن تخيل متخيل ذلك، فشرطه عندي، أنه لو أوصل الماء إلى رأسه دفعة واحدة بحيث لا يفرض تقدّم جزءٍ على جزء، فليس جزء من هذا أولى من جزء بأن يضاف الفرض إلى المسح الواقع به، فاعتقد معتقدون أن جميعَه يقع فرضاً، وهذا بعيدٌ في هذه الصورة التي تكلّفنا في تصويرها أيضاً.
فأما إذا أوصل الماء شيئاًً فشيئاًً إلى رأسه حتى استوعبه بالمسح، فتخيل الفريضة في الأجزاء التي وصل الماء إليها بعد الجزء الأول محال.
فأما القيام، فإذا قرأ المصلّي الفاتحة قائماً، ثم مدّ القيام بعد ذلك، فوصف القيام بعد تقدم القراءة بالفرضية لا يقبله محصل، وكيف يوصف بالفرضية ما جاز تركه، وهو متميز عما تقدم محلاً للقراءة المفروضة؟
نعم إن خلا أول القيام من قراءة الفاتحة، ثم افتتح المصلّي القراءة، فما هو محل القراءة مفروض أعني: قراءة الفاتحة، وما تقدم عليه فيه احتمال، من جهة أنه كان يتأتى إيقاع قراءة الفاتحة فيه، وكان لا يسوغ قطعه قبل جريان القراءة. فأما ما يقع بعد القراءة من القيام، فلا معنى لوصفه بالفرضية.
845- ومما نذكره في القيام، أن بعض الناس قد يعتاد أن يتحرك قليلاً في صوب الركوع، وينحني قليلاً، ثم يرتفع، فمهما زايل الاعتدالَ، وأوقع في حال زواله حرفاً من قراءته الواجبة، فلا يعتد بذلك الواقع خارجاً عن اعتدال القيام. ولو كان يفعل ذلك، ويعود قبل اشتغاله بالقراءة المفروضة، فإن كان ينتهي إلى حدّ الركوع ويعود، فهذا يُفسد الصلاة عمداً؛ فإنه زيادة ركوع في الصلاة، وسيأتي شرح ذلك. وإن كان يزايل حد اعتدال القيام ويعود، وكان لا ينتهي إلى حد الراكعين، فهذا فيه ترددٌ عندي، والظاهر أنه يُبطل الصلاة، وإن لم يبلغ حد الكثرة في الأفعال؛ لأنه يُعدد القومات في ركعة واحدة، فيصير كما لو عدد الركوع في ركعة؛ فإن من خرج عن الاعتدال، فليس قائماً القيام المعتد به، فإذا عاد، كان ذلك قياماً جديداً، وهو يقرب عندي من انحراف الرجل قصداً عن قُبالة القبلة، وقد ذكرت أن ذلك مبطلاً للصلاة؛ فالخروج عن السمت المرعي في القيام ينزل هذه المنزلة.
وسمعت شيخي يجعل الانحناء الذي لا ينتهي إلى الركوع بمثابة الأفعال، فإن قلَّ زمانه، لم يضر، وإن كثر، فهو كالفعل الكثير، وهذا بعيد جداً.
846- ونحن نبتدىء الآن تفصيل القول في الركوع، فنذكر أقله، ثم نذكر أكمله وأفضله.
فأما الأقل، فإنه يعتمد أمرين:
أحدهما: الانحناء إلى الحد الذي نذكره، والثاني: الطمأنينة، أما الانحناء، فأقلّه أن ينحني حتى ينتهي إلى حدّ لو مد يديه نالت راحتاه ركبتيه، وينبغي أن ينتهي إلى هذا في الانحناء، فلو كان بلوغه لانخناسه وإخراجه ركبتيه وهو مائل شاخص، فهذا ليس بركوع، ولا يخفى ذلك، ولكن مزَجَ انحناءَه بهذه الهيئة، ولم يجرد انحناءه، فوصل إلى ما ذكرناه بهما، فلم يعتد بما جاء به، فليكن بلوغ الحد المذكور بالانحناء.
847- فأما الطمأنينة في الركوع، فلابد منها، ولا تصح الصلاة دونها، ثم ليس المعنيُّ منها لُبثاً ظاهراً، ولكن ينبغي أن يفصل الراكع منتهى هُويه عن حركاته في ارتفاعه، ولو بلحظة؛ فإذا فعل ذلك، فقد اطمأن، وإن لم ينفصل آخرُ حركات هُويه عن أول حركات ارتفاعه، بل اتصل الآخر بالأوّل، فهذا رجل لم يطمئن.
ومما يتمّ به هذا التحقيق، أن الراكع لو جاوز أقلّ الحد في الهوي والخفض، واتصلت حركاته، فإن ظن ظان والحالة هذه أن زيادة حركاته وراء أقلّ حد الركوع يحسب طمأنينة، قيل له: ليس كذلك، والرجل غير مطمئن؛ والسبب فيه أنا نشترط الطمأنينة ليتميز الركن بها بانفصاله عمّا قبله وبعده؛ فإنه إذا كان كذلك، كان ركناً معموداً متميزاً، فإذا تواصلت الحركات، فلا يحصل هذا الغرض، فهذا بيان الأقل.
848- ولا يجب عندنا ذكرٌ في الركوع-خلافاً لأحمد بن حنبل- فإن الركوع في نفسه مخالف للهيئة المعتادة، فلم يُشترط فيه ذكر، بخلاف القيام، فإنه واقعٌ في الاعتياد، فخصص بقراءة في العبادة.
849- فأما بيان الأكمل، فنذكر ما يتعلق بالهيئات، ثم نوضح الذكرَ المشروع فيه.
فينبغي للرّاكع أن يجاوز الحدّ الذي ذكرناه في الأقل، ويسوّي ظهره في الرّكوع، وينصب قدميه من موطئهما إلى حَقْوَيه، ويخنِس ركبتيه إلى وراء، ولا نرى له أن يثني ركبتيه، بل ينصب الرجلين، ويثني ما فوقهما على استواء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدّ ظهره وعنقه في الركوع على استواء، بحيث لو صبّ الماء على ظهره، لاستمسك، ويضم راحتيه على ركبتيه والأصابعُ على حِلْيتها متوسطة في التفريج، وينبغي أن يوجهها نحو القبلة، وإذا انتهى إلى المنتهى الذي ذكرناه، فيجافي مرفقيه عن جنبيه، ولا نُؤثر له أن يتجاوز في الانحناء الاستواء الذي وصفناه.
850- فأمّا الذكر المشروع، فينبغي أن يقول إذا ابتدأ الهوي: الله أكبر، ثم اختلف قول الشافعي، فقال في قولٍ: يحذف التكبير حذفاً، ولا يمده، ولا يبسطه، وليس المراد بحذفه أن يوقعه قائماً ثم يبتدىء بالهوي، بل يكبر في هويه، ولكن لا يحاول البسط.
والقول الثاني- أنه يمدّ التكبير، ويبسطه على انتقاله من القيام إلى الركوع.
وقد طرد الشافعي القولين في جميع تكبيرات الانتقالات، فمن رأى الحذف حاذر من البسط التغيير، ومن رأى البسط، لم يُحبّ أن يُخلي حالَةً عن الذكر.
ثم إذا انتهى إلى الركوع قال: سبحان ربّي العظيم. روى حذيفة بن اليمان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في ركوعه"، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، أنت ربّي خشع سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي، وما استقلَّت به قدمي لله رب العالمين».
فإن سبَّح ثلاثاً وأتى بالذكر الذي رواه أبو هريرة، فحسن، وإن اقتصر على أحدهما؛ فالتسبيح أولى وأشهر، وعليه العمل.
ثم كان شيخي يقول: إن كان إماماً لم يزد على التسبيح ثلاثاً، وإن كان منفرداً، فكلما زاد، كان حسناً.
851- وقد اعتمد الشافعي في الطمأنينة وبيان الأقل في الركوع والسجود، ما رواه رفاعة بن رافع: أن أعرابيا دخل المسجد وصلّى، فأساء الصلاة، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه السلام، فقال: «ارجع فصل؛ فإنّكَ لم تُصَلِّ، فَرَجَعَ وَصَلى، ثم عَادَ، فسلم، فرد عليه السلام، وقال: ارجع وصلِّ؛ فإنّك لم تصل، فرجع وصلّى، ثم عاد فسلم، فرد عليه، وقال: ارجع وصل فإنك لم تصلّ. فقال الأعرابي: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها، فعَلِّمني!! فقال: تَوَضّأ كما أمرك الله، ثم استقبل القبلة، فقل: الله أكبر، ثم اقرأ ما معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في كل ركعة» ولم يأمره بذكرٍ في الركوع والسجود.
852- ثم ينبغي للمصلّي أن يقيم شعار رفع اليدين، فيرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع، كما يرفع يديه عند تكبيرة العقد.
ثم الذي نذكره هاهنا وقتَ الرّفع والخفض، فيرفع يديه عند ابتداء الهُوي، ثم يبتدىء الهوي، ويبتدىء خفضَ اليدين مع الهوي، فينتهي إلى الركوع، وقد انتهت يداه إلى ركبتيه، وإذا أراد رفعَ الرأس من الركوع، ابتدأ رفعَ اليد مع الارتفاع، فيعتدل وقد انتهت يداه في الارتفاع إلى منتهاها، ثم يخفض يديه بعد الاعتدال، فهذا بيان الرفع عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع.
ثم يقول الرافع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد. ولا فرق بين أن يكون إماماً، أو مأموماً أو منفرداً، وقد روي أنه صلى. الله عليه وسلم قال: «سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمدُ ملءَ السموات والأرض، وملء ما شئتَ من شيء بعد، أهل الثناء والمجد حق ما يقول العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيتَ ولا معطيَ لِمَا منعت، ولا ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ».
ولعلّ هذه الدعوات تليق بالمنفرد، فأمّا الإمام، فيقتصر على قوله: "سمع الله لمن حمده ربّنا لك الحمد"؛ فإنه مأمور بالتخفيف على من خلفه.
853- ثم ذكر الأئمة أنه يجب الطمأنينة في الاعتدال، كما يجب ذلك في الركوع والسجود، وفي قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي ذكر الطمأنينة في الركوع والسجود، و أما الاعتدال قائماً وجالساً، فلم يتعرض للطمأنينة؛ فأنه قال: «ثم ارفع رأسك حتى تعتدِلَ قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل جالساً». وهذا الركن من الأركان القصيرة أيضاً، ولو وجبت الطمأنينةُ فيه، لما امتنع مدّه كما في الركوع والسجود.
ولم يتعرض للطمأنينة في الاعتدالين الصيدلاني، ولكن سماعي من شيخي، وما ذكره بعض المصنفين اشتراطُ الطمأنينة في الاعتدالين، وهو محتمل من طريق المعنى، وسيأتي من بعد ذلك كلام يدل على تردد الأصحاب في أن الاعتدال ركن مقصود في نفسه، أم الغرض هو الفصل بين الركوع والسجود وبين السجدتين؟ فإن جعلناه مقصوداً، فيظهر فيه اشتراط الطمأنينة، وإن لم نجعله مقصوداً، فلا يبعد ألا تشترط الطمأنينة فيه، والعلم عند الله. وما ذكرته احتمال. والنقل الذي أثق به اشتراط الطمأنينة.
فصل:
قال: "وأول ما يقع على الأرض منه ركبتاه... إلى آخره".
854- نجز القول في الركوع والاعتدال عنه.
ثم يهوي المصلّي ساجداً مكبراً، والقول في حذف التكبير وبسطه على ما ذكرناه.
ثم مذهب الشافعي أن الأوْلى أن يقع منه على الأرض أولاً ركبتاه، ثم يداه. وأبو حنيفة يعكس ذلك. وقد روي مثل ما ذكرناه عن النبي عليه السلام.
ثم الكلام في السجدة يتعلق ببيان الأقل، ثم بعده بالأكمل الأفضل.
855- وأما الأقل، فنذكر هيئة البدن فيه، وما يجب وضعه على الأرض، فيجب وضع الجبهة، وفي وجوب وضع اليدين والركبتين وأطراف أصابع الرجلين قولان:
أحدهما: لا يجب وضعها، وما يوضع منها فلضرورة الإتيان بهيئة السجود، وهذا القائل يقول: المقصود نهاية الخشوع بوضع أشرف الأعضاء الظاهرة على الأرض.
والقول الثاني- أنه يجب وضع هذه الأعضاء، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «أمِرتُ أن أسجدَ على سبعة آراب» وعنى بها الوجه واليدين والركبتين والقدمين.
وذكر بعض أئمتنا أنه لا يجب وضع الركبتين والقدمين قولاً واحداً، وإنما القولان في وجوب وضع اليدين.
ثم إذا أوجبنا وضع اليدين، فهل يجب كشفهما في السجود؟ فعلى قولين.
ولا يجب كشف الركبتين والقدمين وفاقاً؛ أما الركبتان، فمتصلتان بالعورة، فلا يليق برعاية تعظيم الصلاة كشفهما، وأما القدمان، فلا يتجه وجوب كشفهما مع تجويز الصلاة مع الخفين.
توجيه القولين في اليدين: من قال: يجب كشفهما، احتج بما روي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا" معناه: لم يعطنا شكوانا.
ومن لم يوجب كشفهما، احتج أن الغرض المعقول من السجود إظهار صورة التواضع، وذلك يحصل بكشف الجبهة، ولا ينخرم بترك الكشف في اليدين.
ومن قال بالأول، فله أن يقول: ترك كشف اليدين يحكي صورة الكَسْلى ويؤذن بالتنعم الذي يناقض الغرض.
فالأعضاء على مراتب ثلاث: أما الركبتان، ففي كشفهما خروج عن هيئة ذوي المروءات، وليس في كشف القدمين معنى يليق بالسجود، أما الجبهة، فكأنها المقصودة بالسجود، فلابد من كشفها، على ما سنفصل ذلك، والكفان على التردد؛ فليس في ترك كشفهما إخلال بالخضوع، ولكن في ذلك إثبات تنعم وترفه، فاقتضى ذلك اختلافَ القول، كما ذكرناه.
856- ونحن نذكر الآن أمرين آخرين:
أحدهما: تحقيق القول في الوضع ومعناه، والثاني: تفصيل القول في الكشف.
فأما الوضع، فقد قال الأئمة: لو أمس جبهتَه الأرضَ وهو مقلّ لها، لا يرسلها، لم يجز، ولم يصح السجود، وقال صلى الله عليه وسلم: «مكّن جبهتك من الأرض يا رباح»، وطريق المعنى فيه وهو مدار تفصيل المذهب في السجود، فهو أن نهاية التواضع لا يتأتى إلا بتمكين الجبهة من الأرض، والإمساسُ المجرد في حكم الإلمام بافتتاح التواضع، وتمامُه التمكن، ثم التمكين عندنا فيه نظر؛ فإن ظاهره يشعر بأن الساجد متعبد بأن يتحامل على موضع سجوده، بحيث يظهر أثر تحامله.
وأنا أقول فيه: إن لم يكن موضع سجوده وثيراً محشواً، فيكفي أن يُرخيَ رأسَه ولا يُقلَّ ثِقْله، والسر فيه أن الغرض منه إبداء هيئة التواضع، والاسترسال في المصلّي كالشيء الملقَى، وهو أليق بالتواضع من تصنّع التحامل على موضع السجود، والأصل في طلب نهاية التواضع أن الذي يكتفي بإمساس جبهته، الأرضَ، وهو يقلّ ثِقْلَ رأسه، كأنه يتقزّز بإقلاله، كالضنين به، والذي يتكلف تحاملاً ليس يحصل بما يأتي به إظهار تواضع، فالأقرب إرخاء الجبهة، قالت عائشة رضي الله عنها: "رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في سجودِه كالخِرقة البالية".
وإن كان الموضع الذي يسجد عليه محشواً بقطن أو غيره، فكان شيخي يوجب التحامل في مثل هذه الصورة، فيقول: ينبغي أن يتحامل تحاملاً يتبين أثره على يدٍ لو فرضت تحت ذلك المحشو، ولست أرى الأمر كذلك، بل يكفي إرخاء الرأس كيف فرض محل السجود، فهذا منتهى القول في معنى الوضع والتمكين.
857- فأما الكشف، فيجب كشف شيء من الجبهة، ثم قال الأئمة: لا يجب وضع جميعها، بل يكفي وضع ما ينطلق عليه الاسم منها، ويجب أن يكشف شيئاًً وإن قلّ من جبهته، وليكن ذلك الموضوع مكشوفاً، ولو كشف شيئاًً ولم يضعه، لم يعتد به، ولو كان بعض ما وضعه مكشوفاً، كفى؛ فإن الفرض يسقط بذلك المقدار المكشوف الموضوع، والباقي لا أثر له.
ثم لو سجد على كَوْر عمامته، ولم يضع بشرة جبهته على محل سجوده، لم يجز. وكذلك لو كان على جبهته طرة ولم يُبعدها وإنما مسها الأرض، لم يسقط الفرض حتى يُنَحِّيها ويمس بشرة جبهته المصلّى.
ولو سجد على طرف كم نفسه أو ذيله، فإن كان يتحرك ما يسجد عليه إذا ارتفع وانخفض؛ فإنه لا يجوز؛ فإنه منسوب إليه. وإن طوّل طرفَ كمه، وكان بحيث لا يرتفع بارتفاعه، فإذا سجد على ذلك الطرف أجزأه؛ فإن ذلك الطرف في حكم المنفصل عنه في هذا.. وسيأتي في أحكام النجاسات أمر يخالف هذا في ظاهره، وإذ ذاك نُوضّح الفرقَ.
ولو سجد على ذيل غيره، لم يضرّ؛ فإن ذلك الشيء غير منسوب إليه، وكذلك لو سجد على ظهر إنسان واقف في منخفض من المكان، بحيث لا يُفسد هيئة السجود، فيجوز لما ذكرناه، ثم قد نص الشافعي عليه كما تقدم ذكره.
وإذا أوجبنا وضع اليدين وكشفهما، فيكشف من كلّ يد شيئاًً، ويكفي الشيء القليل من كل واحدة منهما، وليكن المكشوف موضوعاً، كما ذكرناه في الجبهة.
فهذا بيان الوضع والكشف.
ثم لا يقوم غيرُ الجبهة مقامها، فلو وضع الأنف، ورفع الجبهة، ولم يضعها، لم يجز عندنا.
858- ومما بقي في ذلك الكلامُ في هيئة الساجد، فيما يتعلق بالأقلّ: وكان شيخي يقول: إن تنكس المرء في سجوده، فتسفَّلَتْ أعاليه، واستعلت أسافله، فهذه الهيئة هي المطلوبة. وإن وضع جبهته على شيء مرتفع، وكان موقع رأسه أعلى من حَقْوه، لم يكن ساجداً، ولم يكن ما جاء به معتداً به، ولو كان مستوياً منبطحاً بحيث يساوي موضع رأسه حَقْوه، فهذا كان يتردد فيه، وهو موضع التردّد.
وأنا أقول: إن تقبض وانخنس، ووضع رأسه بالقرب من ركبته، فهذا ليس هيئةَ السجود، ولا يُشعر أيضاً بالتواضع المطلوب، وإن بعد رأسه عن موضع ركبته، فإن موضع جبهته ينخفض عن كتفه لا محالة، فلا يخلو الساجد في المكان المستوي عن هذا الضرب من الانخفاض. والظاهر عندي هاهنا الإجزاء؛ فإن الانخفاض والتواضع ظاهر.
وإن كان موضع الرأس مرتفعاً قليلاً، بحيث يساوي الرأس الكتف واليدين، وسببَ الاستواء ما ذكرناه من الارتفاع، فالظاهر المنع هاهنا، وإن لم يكن موضع الرأس أعلى مما وراءه.
وكان شيخي يذكر التردد مطلقاً في صورة الاستواء، ويعتبر التسوية بين الحقو وموضع الرأس.
ومما يتعلق بهذا أنه لو سجد على وسادة، فإن كان متنكساً مع ذلك، جاز، ولا شك فيه. وإن ارتفع الرأس لهذا السبب، لم يجز أصلاً، وإن كان هذا سببَ الاستواء، ففيه التردد الذي ذكرته.
ولو كان في مرض يمنعه من التنكس، وكان لا يتأتى منه هيئة الاستواء أيضاً، ولكن لو وضعت وسادة، لَوَضَع جبهتَه عليها، ولو لم يكن، لانتهى الرأس إلى ذلك الحد من غير وضعٍ على شيء، فهل يجب الوضع على وسادة، أو يدني الرأس جهده ولا يلزمه الوضع؟ تردد أئمتنا في ذلك، فمنهم من لم يوجب الوضع؛ فإنه وإن وضع فليس منتهياً إلى الحد المطلوب في السجود، ومنهم من أوجب، وقال: على الساجد وضع وهيئة، فإن تعذرت الهيئة، وجب عليه الوضع.
وهذا كله كلام في هيئة الساجد في بيان الأقل.
فأما الطمأنينة، فلابد منها في السجود كما ذكرناه في الركوع.
وقد تم بذكرها بيان الأقل المقصود من السجود.
859- فأما بيان الأكمل، فيتعلق بالهيئة والذكر: أمّا الهيئة، فإن كان الساجد رجلاً، فينبغي أن يخوي في سجوده، فيفرق ركبتيه ويجافي مرفقيه عن جنبيه، بحيث يُرى عُفْرَة إبطيه لو كان مكتفياً برداء، ويُقلّ بطنَه عن فخذيه، ويضع يديه منشورة الأصابع على موضعهما في رفع اليدين، وأصابعه مستطيلة في جهة القبلة مضمومة غير مفتوحة، بخلاف حالة العقد والرفع، وعند الركوع، فلا موضع يؤمر فيه بضمّ الأصابع مع نشرها طولاً إلا في السجود.
هكذا ذكره بعض المصنفين وهو سماعي عن شيخي، ولم أعثر في هذا على خبر، ولا يثبت مثله بطريق المعنى والله أعلم.
وقد روي عن البراء بن عازب أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى في سجوده" و تفسير التخوية ما ذكرناه، ومنه يقال: خوى البعير؛ إذا برك على وفاز ولم يسترح، ومعناه في اللسان ترك خواً بين الأعضاء.
860- ومما يتعلق بالهيئة، أن ظاهر النص أنه يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض في السجود، ونقل المزني أنه يضع أصابعه بحيث تكون مستقبلة للقبلة، وهذا يتضمن أن يتحامل عليها، ويوجه رؤوسها إلى قُبالة القبلة. والذي صححه الأئمة أنه لا يفعل ذلك بل يضع أصابعه من غير تحامل عليها.
والمرأة لا تؤمر بالتخوية، بل تؤمر بضدها، فلتضم رجليها وتلصق بطنها بفخذيها؛ فإن ذلك أستر لها، ورعاية الستر أهم الأشياء لها.
ومما نذكره في الأكمل ألا يقتصر على وضع الجبهة، بل يضع الأنف مع الجبهة.
وأما الذكر، فيقول في سجوده ثلاثاً: سبحان ربي الأعلى، إن كان إماماً، ولا يزيد، ليخفف على من خلفه، فهذا بيان السجود في الأقل والأكمل.
فصل:
861- الاعتدال من السجود فرض، كما يجب الاعتدال من الركوع، ووجوب الطمأنينة في الجلوس كوجوبها في الاعتدال من الركوع، وقد سبق القول فيه.
ثم تكون هيئة الجالس بين السجدتين في يديه ورجليه كهيئة الجالس في التشهد الأول، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويضع يديه منشورتي الأصابع على ما يتصل بركبتيه من فخذيه، ولو انعطف أطراف الأصابع على الركبة، فلا بأس، فليس في ذلك ثَبت. أمّا أصل وضع اليدين على الفخذين محبوبٌ، ولو ترك يديه على الأرض من جانبي فخذيه، فهو بمثابة من يرسل يديه في القيام.
862- ثم يستحب أن يذكر الله تعالى في الجلوس بين السجدتين.
وقد روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين:
«اللهم اغفر لي واجبرني وعافني وارزقني، واعف عني».
ثم يسجد سجدة أخرى مثل السجدة الأولى، ثم يرتفع.
فإن كانت الركعة تستعقب تشهداً، جلس للتشهد كما سنصفه، وإن كانت تستعقب قياماً، فينبغي أن يجلس على إثر السجدة الثانية جلسةً خفيفةً، ثم ينتهض منها قائماً، وهذه الجلسة تسمى جلسةَ الاستراحة، وهي مسنونة عندنا. والأصل فيه ما رواه مالك بن الحويرث، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الركعة الأولى والثالثة لم ينتهض حتى يستوي قاعداً".
ولا يسن في هذه الجلسة ذكر مخصوصٌ.
863- ولكن اختلف أئمتنا في وقت افتتاح التكبيرة التي ينتقل بها، فمن أصحابنا من قال: يبتدىء التكبيرة محذوفة أو ممدودة مبسوطة مع رفعه الرأس من السجود، وينتهي-وإن مدّت- مع انتهاء الجلسة، ثم يقوم غير مكبر.
ومن أئمتنا من قال: يعتدل جالساً من غير تكبير، ثم ينتهض في جلوسه مكبراً إلى القيام. ونصُّ الشافعي رضي الله عنه يدلُّ على هذا في كتاب صلاة العيد، كما سنذكره ثَم إن شاء الله تعالى.
864- ثم إذا أراد الانتهاض من الجلوس قائماً، فالأحسن أن يعتمد على الأرض بيده؛ فإن ذلك أحزم وأقرب إلى الخضوع، وروي عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام في صلاته وضع يديه على الأرض كما يضع العاجز".
فصل:
865- إذا هوى ليسجد، فسقطَ، نُظر: فإن سقط على وجهه على الهيئة المطلوبة في السجود، فقد نصّ الشافعي رضي الله عنه أن السجود معتدّ به، وإن لم يوجد فيه وفي الطريق إليه حركات اختيارية من المصلّي، واتفق أئمتنا على ذلك.
ولو سقط على جنب، ثم استدّ، واعتمد على جبهته، قال رضي الله عنه: إن قصد باستداده واعتماده أن يأتي بالسجود، وقع ما جاء به سجوداً معتداً به، ولا نظر إلى وقوع الهوي ضرورياً لمَّا سقط وخرّ، وإن قصد باستداده أن يستوي ويستقيم، ولم يخطر له السجود، بل جرد قصده إلى الاستقامة، فلا يعتد بما وقع منه عن السجود.
وهذا الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه يناظر ما إذا أفاض الناسك، ودخل وقت طواف الزيارة، فلو أفلت منه إنسان، فأخذ يتبعه طائفاً حول الكعبة، فما يقع من ترداده على قصد اتباع غريمه لا يعتد به عن الطواف.
وقد ذكرت نظير هذا في كتاب الطهارة، فيمن تعزُب عنه النية، فيغسل رجليه مجرِّداً قصدَه إلى التنظيف، وهو ذاهل عن النية. ذكرت أن من أئمتنا من صحح الوضوء، وهؤلاء طردوا ذلك في الطائف أيضاً، وطردوه في الذي ينتهض من سقطته.
وهذا الخلاف على بعده يجري في صورة مخصوصة، وهي أن تجري صورة ركن مع القصد إلى صرفه عن غير جهة العبادة، بسبب الذهول عن العبادة، فلو لم يكن ذاهلاً عنها، بل كان ذاكراً لها، وقصد مع ذلك صرفَ ما جاء به إلى غير جهة العبادة، كأنه يستثنيها عن سَنَن العبادة، ويستخرجها من حكم نظامها. فإذا كان كذلك، فالوجه القطع بأنه لا يقع ركناً معتداً به، وذلك الوجه البعيد مخصوص بالذاهل-في وقت وقوع صورة الركن منه- عن أمر العبادة.
فلو استدّ الساقط، ولم يخطر له الانتهاض ولا السجود، فالذي جاء به معتد به وفاقاً.
866- فقد ترتب مما ذكرناه صورٌ ثلاث: إحداها- أن يقصد الركن، فيقع ركناً، وإن لم تقع حركات هُويه اختيارية.
والثانية- ألا يقصد شيئاًً، بل يقع منه صورة السجود، فيعتد بها أيضاً قطعاً.
والثالثة- أن يجرد قصده إلى الانتهاض، وهذا ينقسم، فإذا كان ذاكراً للعبادة، وقصد استثناء هذا عن نظامها، فلا يعتد بما يأتي به ركناً، وإن كان ذاهلاً، فالنص أنه لا يعتد به، وفيه وجه مخرَّج، كما ذكرته وطردته، أنه يعتد به، ثم إذا كان ذاهلاً، فلا تبطل الصلاة بما يأتي به، وإن استثنى وهو ذاكر للعبادة، فهذا رجل أتى بصورة ركن عمداً، وسنذكر أن ذلك يبطل الصلاة.
867- وقد بقي الآن في إتمام ما نحاول شيئان:
أحدهما: أن الذي سقط على جنبٍ إذا استوى ساجداً، وقصد الاستقامة، وجرينا على النص في أنه لا يعتد بما جاء به، فإن أراد أن يسجد، لم تنقطع صلاته، فلو أراد أن يديم صورة السجود عن السجود الذي عليه الآن باستدامة تلك الحالة، لا يسقط عنه فرض السجود؛ فإن هذا سجود لم يحتسب أوّله، ولابد من ابتداء سجود معتد به، فكيف السبيل إلى الإتيان به؟
هذا يتعارض فيه أمران:
أحدهما: أن يقال: يقوم، ثم يهوي. ساجداً من قيام، ووجه ذلك أنه كما صرف صورة السجود عن الصلاة، فيصرف الهوي عن الصلاة، فَلْيَعُدْ إلى ما كان، فكأنه لمْ يهوِ، وليبتدىء الهوي، فهذا وجه في الاحتمال.
والأظهر عندي أن يعتدل جالساً، ثم يسجد، وعلة ذلك أن الجلسة كافية في الفصل بين السجدتين، فليقع الاكتفاء بها الآن، والذي يسجد السجدة الثانية، يسند سجدته الثانية إلى فاصل يبني عليه ابتداء السجود الثاني.
وكان من الممكن أن يؤمر بالقيام والهوي منه إلى السجدة الثانية، فلما لم يرد الشرع بهذا دلّ أن القعود كافٍ، فعلى هذا لو قام-ونحن نكتفي بالقعود- فهذا زاد قياماً في صلاته من غير حاجةٍ، وسأقرر هذا إن شاء الله تعالى عند ذكري زيادة الأركان قصداً في أدراج ذكر الأفعال الكثيرة والقليلة إذا جرت.
فهذا أحد الأمرين في تتمة الفصل.
الثاني- أنه قد يتخالج في نفس الفقيه أن المصلي مأمور بأفعاله، فإذا جرت حركات الهوي ضرورية، فيستحيل أن تقع مأموراً بها؛ فإن المأمور به يجب قطعاً أن يكون فعلاً للمكلّف.
فالوجه في التفصِّي عن هذا، أن هذه الحركات غير مقصودة، وإنما الغرض الإتيان بالسجود، ثم يقال عند ذلك: فالسجود لم يقع أيضاً مقصوداً، وهو مقصود قطعاً. وقد مضى في صدر الكلام أن استدامة السجود لا يقع موقع ابتدائه.
فالذي أراه-وإن نقلت ما ذكره الأصحاب- أنه لا يعتد بهذا السجود، ولا يكفي، فليعتدل قائماً، ويسجد سجدةً عن الاعتدال.
والشافعي رحمه الله فرض المسألة فيه إذا سقط على جنب، ثم استقام واستدَّ، فقد حكيت ما ذكره الأئمة، ثم اختتمت الكلام بما عندي فيه. والله المستعان.
فصل:
868- قد ذكرنا تفصيل القول في صفة ركعة واحدة، ولم يبق في كيفية الصلاة إلا التشهد والسّلام.
أمَّا التشهد، فنذكر أولاً كيفية الجلوس، وهيئة اليدين فيه، ثم نذكر التشهد وما يتصل به، فنقول: ذهب مالك إلى أن المصلي يتورك في القعودين جميعاًً.
وقال أبو حنيفة: يفترش في القعودين.
وقال الشافعي رحمه الله: يفترش في التشهد الأول، ويتورك في التشهد الثاني.
واعتمد مالك خبراً مطلقاً عنده في التورك، واعتمد أبو حنيفة خبراً بلغه في الافتراش.
واعتمد الشافعي رحمه الله في الفصل ما روي أن أبا حميد الساعدي قال: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الركعتين، جلس على رجله اليسرى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدم رجله اليسرى، وجلس على مَقْعَدَتِه".
وإذا ورد في النفي والإثبات خبران مطلقان في واقعة، وورد فيها خبرٌ مفصل، فالمطلقان محمولان على المفصل، لا محالة.
869- فإذا ثبت أصل المذهب فنذكر الآن كيفية الافتراش والتورك.
أما المفترش، فهو الذي يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، والقدم من الرجل اليسرى مضجعة، وظهر القدم إلى القبلة، والرجل اليمنى منصوبة، وأطراف الأصابع على الأرض منتصبة والعقب منتصبة. هذه صفة الافتراش.
وأما التورك، فصفته أن يضع رجليه على هذه الصفة، ثم يخرجهما من جهة يمينه، فرجله اليسرى مضجعة، واليمنى منصوبة، ثم يمكّن وركه ومقعدته من الأرض.
ثم الذي يلوح في الفصل بين الجلستين من جهة المعنى أن المفترش في الجلسة الأولى سيقوم، والقيام عن الافتراش هيّنٌ، وهو عن التورك عسر، فأمَّا الجلسة الأخيرة فليس بعدها عمل، فيليق بها التورك، والركون إلى هيئة السكون.
870- فإذا بان كيفية الجلوس، فنذكر صفة اليدين وموضعهما من الفخذين.
أما اليد اليسرى، فينشر أصابعها مع التفريج المقتصد، وتكون أطراف الأصابع مسامتةً للركبة.
وأما اليد اليمنى، فإنه يقبض أصابعه على ما نفصله، فيقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويطلق المسبِّحة.
ثم اختلف الأئمة وراء ذلك: فقال قائل: يضمّ الإبهام إلى الوسطى المقبوضة كالعاقد ثلاثاً وعشرين.
وقال آخرون: يضم الإبهام كالعاقد ثلاثاً وخمسين. ومنهم من قال: يطلق الإبهام والمسبحة كالعاقد ثلاثة. ومنهم من قال: يحلق الإبهامَ والوسطى، والخنصر والبنصر مقبوضتان، والمسبحة مطلقة.
وهذا الاختلاف الذي ذكره الأئمة لم يبلغني فيه اختلاف روايات عن الذين نقلوا كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان صَدَرُ ذلك عن روايات، فذاك، وإن لم تكن روايات، فلعلهم تحققوا صحة إطلاق المسبحة، ولم يتحققوا هيئة الإبهام، فينشأ هذا الاختلاف منه. وأثبت كلّ أمراً قريباً عنده.
871- ثم يؤثر للمصلّي أن يرفع مسبحته عند انتهائه إلى قول: لا إله إلا الله، فيرفعها مع الهمزة في "إلا"، وهل يستحب أن يحركها عند الرفع؛ فعلى وجهين: وهذا الاختلاف متلقى من الرواية، فروي أنه عليه السلام لم يحرّكها، وروي أنه حركها، فقال الكفار: إنه يسحر بها.
ثم يقرب يده اليمنى من ركبته. فهذا بيان هيئة اليدين.
فرع:
872- المسبوقُ إذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير، فالمسبوق سيقوم إلى استدراك ما فاته إذا سلّم الإمامُ، والإمام متورّك، فالمسبوق يفترش؛ فإن هذا ليس آخر صلاته؛ فالافتراش هو الذي يليق بحاله.
وذكر شيخي: أن من أئمتنا من قال: إنه يتورك متابعةً للإمام. وهذا عندي غلط غير معدود في المذهب، فلا أثرَ لتفاوت الهيئة في القدوة.
فصل:
873- إذا انتهى الإمام إلى التشهد الأخير، وكان قد جرى ما يقتضي سجودَ السهو، فالذي قطع به الأئمة أن الإمام يفترش؛ لأن عليه شغلاً بعد السهو، والسجود عن هيئة التورك أيسر من القيام.
وقال قائلون: يتورك؛ فإن الذي نقله الرواة التورك في الجلسة الثانية مطلقاً، والتعويل الأعظم في العبادات على الاتباع، ومجال الاستنباط ضيق جداً.
874- وقد حان الآن أن نذكر التشهد والقولَ في ذلك:
فالتشهد الأخير مفروض عندنا، خلافاً لأبي حنيفة.
والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركن أيضاً في الجلسة الأخيرة.
وفي الصّلاة على الآل قولان:
أحدهما: أنها ركن، والثاني: أنها سنة تابعة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مؤكد.
والتشهد الأول سنة مؤكدة وهو من الأبعاض، وهل تُشرع الصلاة في التشهد الأول؟ فعلى قولين:
أحدهما: بلى؛ فإن ما يقع فرضاً في التشهد الأخير، فهو مشروع في الجلسة الأولى كالتشهد، والثاني: لا يشرع؛ فإن الجلسة الأولى مبنية على رعاية التخفيف. ثم إن أوجبنا الصلاة على الآل في التشهد الأخير، ففي شرعها في الجلسة الأولى ما ذكرناه من القولين: إن قلنا إنها لا تجب في الثانية، فلا تشرع في الأولى.
ثم نذكر ما رآه الشافعي رضي الله عنه الأفضلَ والأكملَ في التشهد، ونذكر بعده الأقل.
875- فأما الأكمل، فما رواه ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وصلم يُعلِّمنا التشهدَ، كما يعلّمنا السورة من القرآن: "التحيّاتُ المباركات، الصّلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله".
واختار أبو حنيفة روايةَ ابنِ مسعود. والروايتان صحيحتان، وقد ذكرنا في مسائل الخلاف ما نرجح به رواية ابن عباس، فهذا هو الأفضل.
وذكر العراقيون في الأفضل عند الشافعي رضي الله عنه طريقين:
أحدهما: التحيات المباركات، الصّلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسولُ الله.
والطريقة الثانية في الأفضل- التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله. فأثبتوا الألف واللام في الطريقة الأخيرة، وحذفوا " وأشهد " عند قوله: "وأن محمداً رسول الله".
والطريقان جميعاًً مردودان عند المراوزة. والصّحيح ما ذكرناه قبل حكاية طريقي العراقيين، وهو الذي نقله الصيدلاني وشيخي، فهذا بيان الأفضل.
876- فأما الأقل، فقد ذكر الشافعي الأقل على وجه، وذكره ابن سريج على وجه: فأما ما ذكره الشافعي، فهو: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
هذا ما ذكره الصيدلاني.
وذكر العراقيون في طريقة الشافعي هذا، ونقصوا كلمة واحدة وهي " وأشهد " في الكرَّة الثانية، فقالوا "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".
والذي ذكروه من إسقاط " وأشهد " فإنها أمثلُ وأليقُ بذكر الأقل، فهذه طريقة الشافعي.
وأما ابن سريج فإنه قال: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقال الأئمة كأن الشافعي اعتبر في ذكر الأقل ما اتفقت الأخبار عليه، ولم يخلُ عنه حديث، وجعل ما انفرد به الأحاديث غير معدود من الأقل، ولكنه اتبع مع هذا الخبر دون المعنى.
وكان ابن سريج راعى الأقل بطريق المعنى بعض المراعَاة، وحذف من الألفاظ ما رأى الباقي مشعراً به، فحذف قوله: "رحمة الله" واكتفىَ بقوله: "سلام عليك أيها النبي" فإن السلام يدل على الرحمة لا محالة، ولم يذكر "علينا"، واقتصر على قوله: "سلام على عباد الله الصالحين".
وفي بعض التصانيف: "سلام على عباد الله" من غير ذكر " الصالحين " في طريقة ابن سريج. وهذا غلط لا يعتد به.
فهذا تفصيل الأكمل والأقل في طريق أئمتنا والله أعلم.
877- أما الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الآل، ففيما ذكرناه قبلُ مقنع. ثم قال الصيدلاني: يستحب الإتيان بالصّلاة كما ورد في الحديث، وقد روي: أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: "اللهمّ صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
هذا هو الذي ورد في الحديث، ثم قال: وما يزيده الناس من قولهم: "وارحم محمداً، وآل محمد كما رحمت على إبراهيم"، فليس له ثبت في الحديث، ثم الذي يتلفظ به الناس ركيك في اللغة؛ فإن من الناس من يقول: كما رحمتَ على إبراهيم، وهذا ركيك؛ فإن العرب تقول: رحمته، ولا تقول: رحمت عليه، ومن الناس من علم، فقال: كما ترحمت على إبراهيم إلى آخره، وهذا فيه خلل آخر، وهو أن الترحم يدل على تكلّف في الرحمة وتصنع، وهذا مستحيل في نعت الإله تعالى، وليس له ذكر في الأحاديث.
878- ثم قال الصيدلاني: الإمام ينبغي ألا يزيد علي التشهد والصلاة، بل يقتصر، وأراد الصلاة التامة مع ذكر الآل وذكر إبراهيم، وزعم أن الأوْلى ألا يذكر دعوة بعد الصلاة، بل يبادر السلام رعاية للتخفيف على من خلفه، ثم قال: فإن أراد الدعاءَ، فينبغي أن يكون ذلك الدعاء في مقدار أقلَّ من التشهد.
والذي ذكره من الاقتصار على التشهد والصلاة في حق الإمام، لم أره لغيره، فأمَّا إذا كان منفرداً، فيأتي بالدعاء بعد الصّلاة، وإن أراد أن يزيد على مقدار أقل التشهد، فلا معترض عليه، ولم يصح دعاء معين بعد الصلاة، بل روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر التشهد والصّلاة، ثم قال: «لِيتخيَّرْ أحَدُكم من الدعاء أحبّه، أعجبه إليه». كذلك رواه الصيدلاني.
فهذا تفصيل القول في التشهد وما يتبعه.

.فصل: هذا الفصل يشمل السلام والتحلل وما يتعلق به.

فنقول:
879- التحلل عن الصلاة بالتسليم، ولا يقوم غير التسليم مقامه، والخلاف فيه مشهور، والمعتمد فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم».
ثم الكلام في أقل السلام وأكمله.
فأما الأقل، فهو أن يقول: "السلام عليكم". فهذا المقدار لابد منه، ولا يجب إلا مرةً واحدةً، فإن التحلل يقع بواحدة، ولو قال: "سلامٌ عليكم" ففي المسألة وجهان:
أحدهما: لا يجزىء، ولا يقع التحلل على الصحة به؛ فإن الأصل الاتباع، ولم ينقل التسليم إلاّ مع الألف واللام، فلزم الإتيان به على وجهه.
ومن أئمتنا من قال: يُجزيه؛ فإنّ التنوين في قول القائل: "سلامٌ" يقوم مقام الألف واللام، وليس ذلك مخالفة وخروجاً بالكليّة عن الاتباع.
ولو قال: "عليكم السلام" فمن أئمتنا من قطع بالإجزاء، ومنهم من خرّج ذلك على الخلاف، من حيث إنه بالتقديم والتأخير خرج عن حكم الاتباع.
وقد ذكرنا أنه إذا قال في عقد الصلاة: "الأكبر الله" أو "أكبر الله"، فهل تنعقد صلاته أم لا؟ فظاهر نص الشافعي يشير إلى الفرق بين التسليم والتكبير في التقديم والتأخير، فإنه لو قال: "عليكم السلام" كان مُسَلماً، ومن قال: "أكبر الله" لم يكن مُكَبراً.
وقد جمع الأئمة بين التكبير والتسليم إذا فرض التقديم والتأخير فيهما، فقالوا: فيهما أوجه: أحدها: أنهما لا يجزيان، والثاني: أنهما يجزيان، والثالث: يجزىء التسليم ولا يجزىء التكبير.
880- وممّا يتعلق ببيان الأقل في التحفل نية الخروج عن الصّلاة، وقد ظهر اختلاف أئمتنا في اشتراطها، فقال الأكثرون: لا يجب ولا يلزم، اعتباراً بسائر العبادات، والنيات تعنى للإقدام على عبادة الله، فأمّا نجازها وانقضاؤها، فإنما هو انكفاف عن العبادة، والنية تليق بالإقدام لا بالتّرك.
وقال قائلون: لابد من نية الخروج؛ فإن السّلام في وضعه مناقض للصّلاة؛ فإنه خطاب للآدميين، ولو جرى في أثناء الصلاة قصداً، لأبطلَ الصلاة، فإذا لم يقترن بالتسليم نية تصرفه إلى قصد التحلل، وقع مناقضاً مفسداً.
وسائر العبادات تنقسم، فأمّا الصّوم، فينقضي بانقضاء زمانٍ، والحجّ لا يقع التحلّل عنه بما هو من قبيل المفسدات.
ثم إن لم نشترط النية ولم نوجبها، فلا كلامَ. وإن أوجبنا، فنشترط اقترانها بالتسليم، فلو تقدمت عليه على جزم وبت، بطلت الصلاة؛ فإنّا قدمنا أن نية الخروج عن الصلاة تقطعها، ولو نوى قبل السّلام الخروجَ عند السلام، لم تنقطع الصلاة بهذا، ولكن لا يكفي هذا، فَلْيَأْتِ بالنية مع السلام.
ثم قال علماؤنا: لا يشترط في نية الخروج تعيين السلام، وإنما يشترط التعيين حالة العقد، فإن الغرض من هذه النية صرف السلام إلى قصد الخروج ولا يخرج المرء إلا عن الصلاة التي شرع فيها، فوقعت نية الخروج بناء على ما تقدم، ونيةُ العقد ابتداء، فيجب تعيين المنوي.
881- ومما يدور في النفس من هذا، أن المناقض للصّلاة قول المُسَلِّم: "عليكم"، فينبغي أن يقع الاعتناء بجمع النية مع هذه الكلمة، ويجوز أن يقال: "السلام" وإن لم يكن خطاباً، فإنه بنفسه لا يستقل مفيداً، والكلام الذي لا يفيد لو جرى في أثناء الصلاة، أبطل الصلاة، فإذاً هو كلام لا يستقل، وإتمامه خطابٌ، فكان الجميع في حكم الخطاب.
882- وقد تردد الأئمة في تقديم نية العقد وقَرْنها بالتكبير، وأجمعوا في نية الخروج على أنها تُقرن ولا تقدم؛ فإن نية الخروج إذا تقدمت، فهي مناقضة مفسدة، وهذا فيه نظر، فإني قد ذكرت في تحقيق نية العقد، أن الذي يتقدم ليس بنية، وإنما هو إحضار علومٍ بصفات المنوي، فعلى هذا لو جرى ذكر الصلاة قُبيل السلام، ثم قرن القصد إلى الخروج بالسلام، فما أرى ذلك ممتنعاً. وفيما مهدته من حقائق النيات ما يوضح هذا.
883- وممّا يليق بتمام القول في هذا أن الأئمة قالوا: السلام من الصلاة، كما أن التكبير العاقد من الصلاة. وأنا أقول: إن لم نشترط نية الخروج، فالسلام في موضعه من الصلاة. وإن قلنا: لابد من نية الخروج، فيبعد عندي أن يكون قصد الخروج مع خطابٍ هو مناقض للصلاة من الصلاة. والعلم عند الله.
فهذا تفصيل القول في الأقل.
884- فأما القول في الأفضل والأكمل، فأول ما نذكر فيه الكلام في عدد السلام فالّذي نصّ عليه الشافعي رحمه الله في القديم، أن المصلي يقتصر على تسليمة واحدة. ونقل الربيع: أن الإمام إن كان في مسجد صغير وجَمْعٍ قليلٍ، اقتصر على تسليمة واحدة، وإن كثر الجمْعُ، فيُسلّم تسليمتين.
والنص الظاهر أنه يسلّم تسليمتين أبداً من غير تفصيل.
فحصل من مجموع النصوص ثلاثة أقوال: أحدها:وهو الذي عليه العمل- أنه يسلم تسليمتين، وهذا هو الّذي تناقله على التواتر الخلف عن السلف.
والقول الثاني: وهو المنصوص عليه في القديم، أنه يقتصر على تسليمة واحدة من غير تفصيلٍ. ومعتمد هذا القول ما روي عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمةً واحدة تلقاء وجهه.
فأمّا التفصيل، فالتعويل فيه على إبلاغ الحاضرين، قلّوا أو كثروا، فإن قلنا: يقتصر على تسليمة واحدة، فلتكن تلقاء وجه المسلّم من غير التفات. وإن قلنا يسلم مرتين، فيلتفت في أولاهما عن يمينه، وفي الثانية عن يساره.
ثم قال الشافعي: فيلتفت حتى يُرى خداه، فاختلف أصحابنا في معناه، فمنهم من قال: يرى خداه من كل جانب، وهذا بعيد، فإنه إسراف في الانحراف. والصحيح أن المعنيَّ به أن يرى خداه من الجانبين، من كل جانب خد.
ثم ذكر العلماء: أنه ينوي السلام على من عن يمينه ويساره من أجناس المؤمنين: من الجنّ، والإنس، والملائكة، ثم مَنْ على اليمين واليسار يقصدون الرد عليه عند الإقبال عليه.
وإن فرعنا على قول التفصيل، فالمنفرد والمأموم يقتصران على تسليمة واحدة.
ثم يقول المسلّم في كل تسليمة: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم التسليمة الثانية تقع وراء الصلاة، وقد تم التحلل بالأولى، ولو فرض حدث مع التسليمة الثانية، لم تبطل الصلاة، ولكن شرط الاعتداد بالتسليمة الثانية إذا ندَبنا إليها دوامُ الطهارة؛ فإنها وإن كانت تقع بعد التحلل عن الصلاة، فهي من أتباع الصلاة. فالظاهر عندي أن شرط الاعتداد بها الطهارةُ، والله أعلم.
885- ثم إن كان المصلي إماماً، فإذا تحلّل، فلا ينبغي أن يلبث على مكانه، بل يثب ساعةَ يسلم؛ وفي الحديث: «إذا لم يقم إمامُكم فانخسوه» وهذا يدلّ على أن الجمع محتبسون إلى أن يقوم الإمام، ولولا ذاك، لَما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخسه.
ثم إذا وثب أقبل على الناس بوجهه، واختلف أئمتنا في أنه من أي قُطْرَيْه يميل، فمنهم من قال: يولي الناس شقه الأيسر، والقبلةَ شقه الأيمن في التفاته، ومنهم من يعكس ذلك، وإن لم يصح في هذا تعبّد، فلست أرى في ذلك إلاّ التخيير.
ثم ينصرف من أي جهة شاء، ولو استوى في حقه الأمران، فالتيامن محبوب في كلّ شيء.
فهذا منتهى القول في ذلك.
وإن كان في المقتدين بالإمام نسوة، فينبغي أن يلبث ويحتبس الرّجال معه، والنسوة يبتدرن وينصرفن؛ حتى لا يختلطن بالرجال.